مجلة البعث الأسبوعية

هل ابتكار آليات تجتث الازدحام والطوابير مهمة مستحيلة؟ الأزمات المعيشية والخدمية مستمرة والمواطن يسأل: ما الأولويات التي تشغل الحكومة؟

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

لو قيل للمواطن في ثمانينيات القرن الماضي أن الأزمات اليومية التي يعيشها هي أزمات مزمنة ومستعصية على الحل، وتشبه المسلسلات المكسيكية، لا نهاية قريبة لها، وإنها ستستمر على الأقل حتى نهاية العقد الثاني من القرن 21، لسقط سقطة “مريعة” لا قيام من بعدها إلا في العالم الآخر. ولربما لهذا السبب، لا يشعر من عاش أزمات الثمانينيات بأي جديد في أزمات بداية العقد الثالث من القرن 21، وهو لا يعوّل كثيراً على وعود الحكومة بحل هذه الأزمات “قريباً”، لأن كلمة “قريباً” تآلف معها منذ أكثر من ربع قرن، ويعرف جيداً أنها لن تأتي “قريباً”.. وإليكم الدليل!!

– في صيف 1993، وصلت أزمة تقنين الكهرباء إلى ذروتها، وتسببت بخسائر جسيمة للمواطن وللمعامل قُدّرت آنذاك بعشرات الملايين، ما دفع الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى عقد اجتماع للحكومة، برئاسته، أكد فيه أن الكهرباء حق لكل مواطن، ووجه بوجوب الإسراع في إيجاد الحلول الناجعة – الآنية والطويلة الأجل – لأزمة الكهرباء، وقد نعمت بعدها البلاد بعدة سنوات من الكهرباء بلا تقنين. وهذا يؤكد أن أزمة الكهرباء ليست مستجدة، بل عمرها عقود، والانفراجات تقتصر على بضع سنوات لتعود الأزمة من جديد!

– لم تشهد أزمة المحروقات منذ ثمانينيات القرن الماضي انفراجات فعلية إلا في أشهر الصيف، وعلى الرغم من تحرير أسعارها بنسب أرهقت ملايين الأسر، إلا أنها لا تزال مستمرة، والمواطن لا يستطيع الحصول على حاجته منها إلا من السوق السوداء. وفي كل شتاء، تعلو وعود الحكومة بحل أزمة المحروقات قريباً، لكنها لا تفعلها لأنها مشغولة دائماً بأولويات أخرى!

وتسير أزمة النقل منذ مطلع الثمانينيات من سيء إلى أسوأ، والحكومات المتعاقبة رفضت حلها باستيراد باصات من “الشرق”، لأن هناك أولويات أهم استأثرت باهتماماتها!

– أزمة الرغيف لم تشهد انفراجاً على مدى أربعة عقود، ولو لبضعة أيام، فالنوعية رديئة، والطوابير على منافذ الأفران طويلة، ويحتاج المواطن عدة ساعات للحصول على ربطة الخبز. وعلى الرغم من وعود الحكومات بحلها “قريباً”، فإنها أخلفت وعودها لأنها انشغلت بأولويات أخرى!

أزمة المياه لا تزال تتطور من وضع حاد إلى وضع أكثر حدة واختناقاً: المياه لا تصل إلى تجمعات سكنية كثيرة، والتقنين يمتد لساعات طويلة جداً، وهدر وضياع في الشبكات بسبب قدمها واهترائها،

والحكومات المتعاقبة لم تسع لحل أزمة المياه لأن جهودها كانت مكرسة دائماً لأولويات أخرى.

أزمة السكن لا تزال تضغط على المواطنين منذ أكثر من أربعين عاماً، وهي أزمة يتحكم بها ويديرها السماسرة والتجار، وأسعار السكن تقفز بجنون بين العام والآخر، وغالباً بين الشهر والشهر، ومواد البناء تباع في السوق السوداء، بما فيها المواد المنتجة في القطاع العام، أو التي تستوردها المؤسسات الرسمية، وذلك في ظل غياب شبه تام لمشاريع السكن التعاوني. أما المشاريع الحكومية، فليست أكثر من إبر مخدرة تريحها من “نقيق” المواطنين بضع سنوات، لأنها لا تريد حلاً جذرياً لهذه الأزمة، لأنها مشغولة بأولويات أخرى.

الأزمة الصحية لا تزال على حالها: خدمات متردية في القطاع العام، وخدمات خمس نجوم في القطاع الخاص لمن يملك المال والجاه والسلطان، وإصرار غريب جداً على عدم فصل القطاع الصحي العام عن الخاص، والحل الجذري للأزمة مؤجل لحين تفرغ الحكومة له، بعد أن تنجز أولوياتها الأخرى.

بعد كل هذا، لا يسأل أحد: ما هي أولويات الحكومات منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وحتى الآن؟

لأننا، بصراحة، أخفقنا في معرفة الأولويات التي تشغل بال الحكومات المتعاقبة حتى الآن، وتمنعها من التفرغ لحل أزمات النقل والمياه والكهرباء والسكن والصحة والرغيف.. إلخ، منذ أكثر من أربعين عاماً!

 

مشهد اليوم لا يختلف عن الأمس

صحيح أن الحرب على سورية فعلت فعلها بتشديد الخناق على السوريين، لكنها ليست بالحجم الذي توحي به بعض الجهات الحكومية، فالأزمات والطوابير مستمرة منذ عقود، بل يمكن القول إن العقوبات كشفت حجم تقصير الجهات المسؤولة عن حل هذه الأزمات والطوابير أمام منافذ الأفران وصالات “السورية للتجارة” ومحطات الوقود. فما الذي حصل فعلاً خلال الأسابيع الماضية؟

فجأة، عادات الطوابير أمام محطات الوقود، وازداد طولها أمام الأفران، وزادت ساعات تقنين الكهرباء، والازدحام بات على أشده أمام منافذ توزيع المواد المقننة.. وكل ذلك يحدث، وكأنّ لا وجود لوباء كورونا الذي يهدد حياة السوريين.

والملفت مع اشتداد حدة الأزمات والطوابير والازدحام خروج الكثير من الجهات المسؤولة بتصريحات حاسمة: “الأزمة عابرة ومؤقتة، وستنتهي قريباً”. والملفت أكثر ألا يكون لدى وزارات النفط والتجارة الداخلية والنقل والكهرباء والاقتصاد أي خطط استباقية تتوقع الأسوأ، كي لا تتفاجأ بزيادة حدة الأزمات القائمة أصلاً، والتي تتسبب بالطوابير والازدحام في زمن الكورونا الخطير!

 

ماذا تفعل “التجارة الداخلية”؟

ما يجري أمام الأفران وفي صالات “السورية للتجارة” يؤكد أن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لا تعترف بوصول كورونا إلى سورية حتى الآن، أو أنها لا تتابع نشرة وزارة الصحة اليومية عن أعداد المصابين، ولا استنفار المشافي استعداداً للأسوأ. فالطوابير أمام الأفران، والازدحام في صالات “السورية للتجارة” لا يمكن وصفه إلا بـ “الاستهتار”؛ وبدلاً من أن تستنفر المديريات والمؤسسات في الوزارة لابتكار آليات تمنع الطوابير والازدحام، يعلن بعض المديرين، بلا أي مسؤولية، أن الازدحام في الصالات طبيعي. فهل من المعقول أن تصرّ وزارة التجارة الداخلية على تطبيق الأليات نفسها في البيع والتوزيع في زمن الكورونا؟

قد تبرر الجهات المسؤولة بأن المواطن لا يتقيد بالإجراءات الاحترازية، ولكن إذا كان المواطن يحتاج إلى أكثر من ساعة للحصول على ربطة خبز، ومثلها لمخصصاته من المواد المقننة، فهذا يعني أن الإجراءات غير فعالة. وإذا كانت المواد متوفرة وتزيد عن الحاجة – كما يقول المعنيون في الوزارة –  فلماذا لا يتم تطوير آليات توزيعها، كإيصالها للمنازل، مثلاً، بأوقات معينة، أو تحديد موعد معين لاستلامها عبر البطاقة الذكية، مثلما حدث مع مادتي الغاز والمازوت؟ وما الذي يشغل الوزارة إلى حد تنسى فيه أنها مسؤولة عن حماية المستهلك من كورونا، هذا إن لم تكترث لراحته، أي لحصوله على الخبز والسلع بأقل زمن ممكن؟

 

الحل ليس بلجان الأحياء

وإذا كانت مجالس بعض المدن طبقت، بالتعاون مع فروع المؤسسة السورية للتجارة، مبادرات لتوزيع المواد المدعومة، من سكر ورز، على المواطنين في منازلهم، وذلك لتجنب مخاطر الازدحام، فهذا يكشف تقصير الوزارة، كما أنه إحراء مؤقت حتى لو حقق نجاحاً لبعض الوقت. فبدلاً من تجميع لجان الأحياء لـ “البطاقات الذكية”، وتمريرها على الجهاز وقطع الإيصالات اللازمة بأسماء المواطنين ليصار إلى تسليمهم مخصصاتهم في منازلهم بعيداً عن الازدحام الذي تشهده صالات التوزيع، فإن هناك حلاً دائماً وأكثر فعالية، إذ يمكن لوزارة التجارة الداخلية، بالتعاون مع لجان نقابة العمال، إحداث نقاط بيع دائمة في الإدارات والمؤسسات والشركات والمعامل الحكومية والخاصة لبيع الخبز والمواد والمخصصات المقننة.

ماذا يعني هذا الإجراء الذي كان مطبقاً في بعض الإدارات الرسمية في تسعينيات القرن الماضي؟

يعني إتاحة المجال لأكثر من أربعة ملايين عامل، على الأقل، للحصول على الخبز والمواد والمقننات دون الوقوف في طوابير أمام الأفران، أو الانخراط في حشود تزيد من احتمالية إصابتهم بكورونا. والسؤال: هل تنفيذ هذه الآلية صعب، أم إن الوزارة سعيدة بالطوابير وبالازدحام، لتثبت للغير أن أفرانها وصالاتها شغالة 100%؟
تبرير يفضح التقصير

وكل التبريرات التي يُطلقها المسؤولون، من مواقعهم المختلفة، تفضح تقصيرهم بوضع خطط تتوقع الأسوأ كي لا تتفاجأ الحكومة، ولا المواطن، بأزمات، كما يحدث منذ أسابيع على أبواب الأفران ومحطات الوقود..

المواطن يعرف أن أزمة البنزين إلى انفراج ولو بعد شهر، وهو ليس بحاجة إلى تصريح مسؤول، من هنا أو هناك، ويعرف جيداً أن الطوابير سيقصر طولها، لكنها ستبقى كما كانت على مدى العقود الماضية بلا حلول!

اما الكهرباء، فقد “تدجن” المواطن مع التقنين، ويعرف أنه تحول إلى روتين، وبات جل همه أن تتقيد وزارة الكهرباء بمواعيد محددة، ولو كان القطع لمدة أربع ساعات متواصلة مع وصل لساعتين فقط.

ولا يختلف الحال مع تقنين المازوت الذي انخفضت حصة الأسرة منه من 1200 ليتر سنوياً بسعر 8.5 ليرة لليتر، إلى 400 ليتر بالكاد يحصل المواطن على نصفها وبسعر 185 ليرة لليتر، باستثناء المقتدرين مالياً الذين يجدون حاجتهم كاملة بالسعر الأسود.

 

الطوابير تُنعش السوق السوداء

ويجزم الكثير من المواطنين أن الطوابير مفتعلة، وهدفها إنعاش السوق السوداء، بدليل أن المواد متوفرة، وبالكميات التي يريدها المقتدرون مادياً، وبخاصة مادتي الخبز والبنزين حالياً والمازوت دائماً. ونصدق مدير المخابز بقوله أن “لا نقص في الطحين ومستلزمات الخبز”، لكننا نسأل جميع المسؤولين في وزارة التجارة الداخلية: ما أسباب زيادة حجم الطوابير أمام الأفران؟

الجواب نجده بعدد الضبوط التي تنظمها أجهزة الرقابة بحق مافيا الدقيق التمويني التي تتحمل مباشرة أزمة الرغيف وزيادة الطوابير أمام الأفران، وليس كما يزعم البعض بأن باعة الخبز على الأرصفة، من أطفال ونساء، هم سبب أزمة الطوابير!

وليس صحيحاً أن الازدحام على المخابز سببه زيادة الطلب على الخبز، والاستجرار الكبير له في الآونة الأخيرة، لأن نسبة لا بأس بها من مستهلكي الخبز السياحي عادوا لشراء الخبز التمويني، فالازدحام زاد لكنه لم يتوقف في أي يوم. ومثل هذا التبرير لوزارة التجارة يكشف قصر نظرها، إذ كان عليها أن تتوقع، بعد ارتفاع سعر ربطة الخبز السياحي إلى 1200 ليرة، أن يتحول عدد كبير من المواطنين إلى الخبز المدعوم، لأن عدد الأسر السورية القادرة على تخصيص 60 ألف ليرة للخبز شهرياً محدود جداً جداً!

 

المواطن يدفع الثمن

ربما لاتكترث الجهات المسؤولة بالأزمات التي تعصف بالمواطن، ولا بزيادة حدتها بين فترة وأخرى لأنها لاتنعكس عليها بأي شكل من الأشكال على الرغم ان المستجدين منهم كانوا مواطنين بالأمس القريب. وبالمحصلة، فالمواطن وحده يدفع ثمن التقصير عن إيجاد الحلول الفعالة والدائمة لأزماته اليومية. نعم.. كثير من المواطنين ليس لديهم الوقت لقضاء عدة ساعات للحصول على الرغيف المدعوم، وبسبب أزمة النقل الحادة الكثير منهم يضطر لركوب سيارة أجرة، وبخاصة النساء والمرضى والمضطرين لقضاء حاجات ضرورية لا تحتمل التأجيل، وها هي أزمة البنزين تحولت إلى ذريعة لرفع تعرفة سيارات التاكسي والسرفيس.. إلخ.

وليس مطلوباً أن تستنفر عدة جهات حكومية لتنظيم الدور على الأفران ومحطات الوقود، وكأن الطوابير والازدحام واقع عصي على التعيير.. المطلوب استنفار الجهات الحكومية لابتكار آليات تجتث الطوابير والازدحام، فهل هذه مهمة مستحيلة؟ أم ماذا..؟!