الصالونات النسائية الأدبية في حلب.. فضاءات إبداع بلمسات سحرية أم سهرات اجتماعية وشللية ومآرب أخرى؟!
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
منذ اللقاءات الفكرية الأولى للإنسان على هذه البسيطة، وهو يبحث عن فضاء لتداول أفكاره ومناقشة طموحاته وتفعيل أحلامه، سواء كان هذا الفضاء تحت أشجار البراري، أو في الكهوف، والمعابد، والمسارح، أو مجامع الآلهة القديمة، أو سوق عكاظ، أو مجلس سيف الدولة الحمداني، ومجلس هارون الرشيد، أو صالونات الخلفاء الأمويين والعباسيين، أو المنصات المختلفة التي بدأت تنزح بالتدريج عن شكلها العام إلى شكلها الخاص، لتصبح “صالونات” ثقافية فكرية أدبية وفنية تنوعت على مرّ العصور، فوثقتها اللحظة التاريخية، وتركت لبوابات الزمان الواقعي والافتراضي البحث عن هويتها بين محورين: أولهما الإبداع، وثانيهما ما وراء الكواليس.
من تلك الصالونات، نذكر صالون الفيلسوفة إسبازيا، معلمة سقراط وأفلاطون وبوكليز فن الخطابة والفصاحة، وصالون “عمرة” ذات الرأي الحكيم في القرن الأول الهجري، وصالون كل من السوريات جوليا دومينا الفلسفي الفكري، ومريانا مراش وماري عجمي، وحنان نجمة، وصالون الأندلسية ولادة بنت المستكفي، وصالون كل من المصريات نازلي فاضل، ولبيبة هاشم، وزينب صدقي، وصالون كل من اللبنانيات مي زيادة في مصر، وحبوبة حداد في بيروت، والحجازية سكينة بنت الحسين، والعراقية صبيحة الشيخ داوود، والإيطالية إيزابيلا ديستيه، وكل من الفرنسيات مادلين دوسكيديري، وكونرار وبروكوب.
بعض الصالونات اتخذ هيئة منتدى مثل منتدى سكينة، وهو الاسم الذي أطلقته ثريا الحافظ على صالونها، وبعضها لا يحبذ أن يطلق عليه تسمية صالون لعدم انتظام جلساته، مثل صالون الكاتبة الدمشقية كوليت خوري. كما تكاثرت مجموعات و”غروبات” تظهر كصالونات أدبية افتراضية تعتمد على الفضاء الرقمي، والبرامج الاجتماعية “السوشال ميديا”، مثل “الواتس آب”، “الفايسبوك”، و”غرف الدردشة” المتنوعة. لكن، لماذا الصالون الأدبي بشكل عام، والصالون الأدبي الحلبي بشكل خاص، تنشئه وتقوده امرأة؟ وبماذا يلتقي مفهوم الصالون الأدبي سابقاً مع الصالون الأدبي المعاصر؟ ومتى يكون ظاهرة إيجابية فاعلة؟ ومن يضمن ألاّ تضمر الصالونات الأدبية بعداً خفياً آخر غير الفكر والأدب والنقد؟ وهل تستمر الصالونات الأدبية في زمن الشاشة الافتراضية؟
هامش اعتراضي لا بد منه للمتون
سيلاحظ القراء الأعزاء أن هناك اختلافات في الرأي بين إيجابية هذه الصالونات وسلبيتها، تماماً كما لاحظت “البعث الأسبوعية” الأداء الفاعل الإيجابي المتسارع للمشاركين، والأداء البطيء والسلبي لبعض الكتاب والكاتبات – الذين واللواتي تتواصل معهم ومعهنّ – من أجل المشاركة في مواضيعها المختلفة. ويبدو أن البعض يرى نفسه أهمّ من البعض الآخر، والبعض غير معتاد على الصحافة، أو غير متعاون معها، والبعض كان لبقاً بالاعتذار لأسباب غير منطقية، والبعض لا يريد المشاركة خوفاً من “العداوات”! والبعض لم يعتد على الشفافية والصراحة والموضوعية!
شللية وبلا إبداع
رأى الكاتب الباحث محمد جمعة حمادة أن الصالون الأدبي وسيلة فضلى للقراءة والحوار وتوطيد العلاقات الإيجابية بين الأدباء، وتشجيع الأدباء الشباب: لا أدري إن كان الأمر مصادفة أن يكون هناك صالون أدبي في حلب، أنشأته آديل برشيني، وآخر أنشأته رياض نداف. وإذا كان أمر نشأة الصالون الأدبي من قبل امرأة، فليس أمر القيادة بالضرورة أن يكون من قبل من أنشأته، ربما يتم التخطيط مسبقاً لقيادة جلسة القراءة والنقاش لأي أديب من الحضور.
وتابع: انعقاد الصالونات الأدبية تحت عنوان الإبداع يعني الكثير، لا سيما وأن الأدباء لديهم ما يغني النقاش، ولديهم رسالة إلى المجتمع، ولذلك يلتقي الصالون الأدبي السابق مع الصالون الأدبي المعاصر بميزة حضور الأدباء، لكن، سابقاً، كان الإبداع هو السمة الغالبة، بينما خفّ في الصالون الأدبي المعاصر، وربما غاب عن نتاج من أنشأ هذا الصالون وغالبية من يحضره.
وأضاف: لا يكون الصالون الأدبي ظاهرة إيجابية إلاّ عندما يحقق أعضاؤه الحياد والموضوعية والنقد البنّاء وعدم المحاباة والمجاملة.. وللحقيقة، لا أحد يضمن ألاّ تضمر الصالونات الأدبية بعداً خفياً آخر غير الفكر والأدب والنقد، وبخاصة، أننا نكاد نرى بعض أعضائها يقتصر حضورهم على التواجد في الصالون الأدبي الذي يرتادونه، وعدم حضورهم لفعاليات أخرى.. هل الأمر شللية أم تفاعل حضاري؟ وهل ما يتم في هذا الصالون، أو ذاك، نقد حيادي موضوعي إيجابي، أم تربيت على الأكتاف و”حكّ لي لأحكّ لك”؟
واختتم حمادة: في البحث عن هوية للصالونات الأدبية يجب أن نتوقف عند الوسيلة والغاية، المحاباة، والنقد الجاد.. هذه الصالونات، من خلال استقراء بعض نماذجها، لن تستمر في زمن الشاشة الافتراضية!!
لمسة سحرية
الصالون الأدبي عندما تقوده امرأة تكون له لمسة سحرية من الحنان والحب ولم الشمل، ليعطي صورة عن المرأة المثقفة، وإثبات جدية وجودها، بما لها من ذوق رفيع في تحريك الحراك الثقافي، ووصول صوتها إلى المتلقي، إضافة إلى أن جمهورها أوسع من الرجل.. هذا ما أجابت به الشاعرة الإعلامية إيمان كيالي، وتابعت: لن ننسَ لحظة صالونات الأديبات اللواتي نفخر بهنّ: مريانا مراش ومي زيادة وكوليت خوري وماري عجمي.. كنّ منارة ودوحة للأدب والنقاش المتبادل، ويقظة المرأة التي كانت تسري فيها روح الانسجام.
وتضيف: صالون آديل برشيني يتصف بالكلمة الراقية فناً ومعنى، ودوره إحياء الثقافة وتنمية الذوق ومساعدة المواهب الشابة لاجتياز مرحلة رهبة المنبر وجرأة الكتابة، إضافة إلى الحميمية التي يحملها الصالون من ذكريات وحروف بين تتابع الأجيال.
أمومة أدبية
وأكد الشاعر إبراهيم كسار على المنتديات والصالونات الأدبيّة كظاهرة إيجابيّة وضرورة حقيقيّة في كلّ زمان ومكان، مُرجعاً ظهورها للظروف السياسيّة والاجتماعيّة، فتكون في حالة الرخاء كما في حال الشدّة، كونها المتنفّس الحيويّ الذي يثمر على امتداد العصور مزيجاً رائعاً وراقياً من الأدب.
وأرجع كسار السمة النسويّة الغالبة على الصالونات إلى ما تتحلّى به المرأة من حسّ أنثويّ أموميّ، فتكون بلطافتها وعمقها أمّاً للحاضرين؛ وهنا، شرط العمر غير ملحوظ، فقد تكون صاحبة الصالون شابّة تحرص على راحة الموجودين استقبالاً وضيافة وحفاوة قد لا يحسنها الرجل، إضافة لوجودها كأثر إبجابيّ محفّز، فيغلب على الجلسات الحوار بهدوء وسكينة وألفة، وتطفو على السطح روح المنافسة والرغبة في نيل الإعجاب.
وأضاف: ما يجمع بين هذه الظواهر قديماً وحديثاً هو الحرص على إحداث حراك ثقافيّ ما، قد يكون من أحد أهدافه الشهرة، وكم من الأدباء من ذاع صيتهم من خلال تلك الأنشطة، وبخاصّة أنّها تتّصف بالأريحيّة والأخويّة أكثر من المراكز الثقافيّة الرسميّة.
وتابع: أمّا عمّا توارى في سؤالك عن إمكانيّة نشوء بعض الصالونات والمنتديات لأسباب قد لا تكون أدبيّة، وقد تحمل سمّاً في الدسم، فهذا جائز في أيّ عمل أو فكرة يطرحها أحد ما، طبعاً بعيداً عن نظريّة المؤامرة.. وهنا، لا بدّ من وجود أبجديّات أولى متّفق عليها كأنّها نظام داخليّ يؤطّر هذه اللقاءات ويحمي المشاركين فيها. وعلى حدّ علمي المتواضع، لم أسمع بغير ذلك، وبخاصّة في حلب، ابتداء من صالون مريانا مرّاش، وصالون عائشة دبّاغ، مروراً بصالونات أخرى. وأذكر هنا تجربتي، في بداية التسعينيات، حيث كنت عضواً مؤسّساً لمنتدى أدبيّ بصحبة كل من الأصدقاء محمّد علي شريف، زكريّا حيدر، فوّاز حجّو، واستمرّ نشاطه في حلب حتّى عام ٢٠١٢، ولا انتهاء بصالون أديل برشيني ومنتدى الرياض، وأنا عضو في الأخيرين. ومدينة عظيمة وعريقة مثل حلب قليل عليها وجود صالونين أو أكثر.. أمّا ما جرى إحداثه على الشاشة الزرقاء، فأنا أرى أنّه يغلب عليه التبسيط والدعاية الشخصيّة والمجاملات، وعدم المصداقيّة، وغلبة الصفة التجاريّة التسويقيّة.
ظاهرة صحية في مناخ مضطرب
ورأت الشاعرة يمان ياسرجي أن جمال اللقاء تحت عريشة صالون أدبي ينبع من الرغبة في الاكتمال والتألق، مضيفة: تعددت الصالونات الأدبية في حلب، وأذكر منها منتدى رياض الأدبي، صالون آديل برشيني، جمعية أصدقاء اللغة العربية التي ترأسها سهى جودت، الملتقى الثقافي الأسبوعي الذي يدير الحوار فيه بشير دحدوح.
وتابعت: قد يكون اللقاء على طاولة حوار تتوسطها قهوة ساحرة، أو يكون على أطراف الشبكة العنكبوتية الزرقاء، أو في مجموعات “الواتس” اللطيفة، حيث يتم تداول الآراء والأفكار غيابياً، خصوصاً في زمن “الكورونا” الذي حدّ كثيراً من الفعاليات والنشاطات.
واعتبرت ياسرجي الصالونات الأدبية ظاهرة صحية في المناخ المضطرب الذي أفرزته الحرب بكل ألوانها العسكرية والاقتصادية والنفسية، مؤكدة أن الإبداع والجمال صنوان تتميز المرأة بقيادته كما يفعل الرجل، ويبقى الأدب الحاجة العليا التي تتوج هام الإنسانية وترقى بها.
صالون ارتفاع الأسعار
وبواقعية شفافة، أجابنا الكاتب والمترجم جوزيف ناشف: “الكورونا” جعلت الكثير من الناس متباعدين، ومبتعدين عن المشاكل، والظرف لا يساعد على التواصل.. نحتمل فوق طاقتنا، ولا يوجد صالون أدبي فعّال حالياً، بينما في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كانت هناك صالونات أدبية مختلفة، وقد تضمر الصالونات الأدبية، أحياناً، ما لا علاقة له بالأدب والفكر والنقد.
واسترسل: ننتظر أن ينتهي الوباء بكافة أشكاله لأننا لا نستطيع التواصل المباشر مع بعضنا البعض، إضافة إلى الظروف العامة الحالية، وووباء الغلاء، وأرى أننا – ضمن ظرفنا المعاش الحالي – في “صالون ارتفاع الأسعار”، لا صالون القصة والنقد والفكر والأشعار.
تنتصر للسهرات الاجتماعية لا للأمانة الثقافية
بينما وجد الشاعر محمد بشير دحدوح أن الصالونات الأدبية جاءت كبديل معادل، بشكل ما، للأسواق الأدبية العربية مثل عكاظ والمربد وشبيهاتها.
وأردف: لا بد هنا من إظهار دور المرأة الأنثى الريادي لما للمرأة تكويناً من قدرة على الاحتواء والتربية، والقيام بأعباء ينوء بها تكوين الرجال، أو يكاد؛ ولذلك نرى كيف يحدثنا تاريخ أدبنا العربي عن هذه الصالونات والمنتديات بأصالة ورسوخ.. مثلاً منتدى سكينة بنت الحسين، ونزهون الغرناطية، وولادة بنت المستكفي. والغالب على نشاط هذه الصالونات قديماً حضور ومشاركة كبار الأدباء ورجال الفكر والتنوير كلٌّ في عصره.. واستمر الحال حتى التاريخ المعاصر لنرى صالونات نعدُّ منها صالون مريانا مراش وماري عجمي وزهراء العابد وحنان نجمة، وصولاً إلى سهرات كوليت خوري وصالون ابتسام صمادي الذي كان يقام في قاعة كبيرة في برج الصالحية.
ولفت دحدوح إلى ضرورة التمييز بين تجمع للأدباء في سهرة اجتماعية يتنادمون خلالها الأدب فاكهة حديث، وما لذلك من قيل وقال، وبين الصالونات التي تأخذ على عاتقها حمل رسالة ثقافية وأدبية ومشاريع نهضوية تحمل أمانة الثقافة وهمَّها، ويمثلها حاضراً منتدى رياض الأدبي الثقافي.
وأما عن إمكانية استمرار هذه المنتديات والصالونات مقابل الشاشة الافتراضية، فذلك مرهون بمردودية محتواها من حيث الغنى والجدّة والرغبة الصادقة في تعزيز جماعية الحراك الثقافي والإيمان بذلك.
حلب اجتماعية
وأرجعت الشاعرة منى بدوي إنشاء المرأة للصالونات الأدبية والدور البارز للنساء فيها إلى الجمال الحضاري الغنائي والثقافي الذي تتحلى به المرأة ، مشيرة إلى أن الصالونات الأدبية لها قدمها الموغل في الزمن في حلب المدينة الاجتماعية بطبعها وطابعها وعمقها التاريخي والحضاري والفني والأدبي.
وأذكر سيدات مثل سهى جودت، رياض نداف، ليلى مقدسي، آديل برشيني، ضياء قصبجي، ممن أنشأن صالونات وأندية، ولا أنسى محمود فاخوري وناديه كأول ناد أدبي كان لي شرف زيارته، ونادي محمد بشير دحدوح، وناد نسوي صرف غير معلن كان يرأسه الأستاذ أحمد دوغان، رحمه الله، إذ كان يجمعنا في مقر ثقافي حكومي، كل مرة بمقر مغاير لنقرأ ونتداول الآراء.
ورأت أنه لا مضمر للصالونات الأدبية غير الحفاظ على إذكاء شمس الفكر وتدفقها طاقات إبداع، وتساعد على استمرارها الشاشات الافتراضية المتنوعة، فحركات الأدب في تقدم، وليس في تقادم، وخاصة زمن الحظر الوبائي.