مجلة البعث الأسبوعية

حرب فرنسا الدموية في أفريقيا.. الجنود الفرنسيون لا يكافحون الإرهاب في مالي.. هم  محتلون!!

“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة وإعداد عناية ناصر

نشرت فرنسا قواتها العسكرية في مالي، بداية، بذريعة تعقب الجهاديين، لكن التقارير التي نشرتها مجلة “دير شبيغل” تظهر أن الجنود الفرنسيين اعتادوا على قتل المدنيين هناك بشكل متكرر، فهل أن يتحول هذا البلد إلى أفغانستان فرنسا؟

في كانون الثاني الماضي، تجمع قرابة 100 شخص على مشارف قرية بونتي، لحضور حفل زفاف. جلس البعض على حصائر في ظلال الأشجار وشربوا الشاي. كان الحفل على وشك البدء عندما ظهرت مقاتلات فرنسية في السماء، كما قال الراعي مادابل ديالو (71 عاماً)، أحد الضيوف. بعد وقت قصير، سمع ديالو دوي انفجار، تلاه انفجار آخر.. ما يتذكره هو إطراحه على الأرض إثر إابته بجروح بالغة، كانت ساقاه تنزفان، ورأى ضيوفاً بأطراف ممزقة، وآخرين تحولوا إلى أشلاء. تم إسعاف ديالو إلى أقرب مركز صحي.

بالحديث معه بعد عدة أيام عبر الهاتف، كان لا يزال في حالة صدمة. وكان ابن عمه، مامودو ديالو، الذي أصيب أيضاً في الهجوم، مستلقياً على السرير المجاور له، ولقي ثلاثة من أبناء أخيه حتفهم. قال: “جميع الناس أذرعهم وأرجلهم ورؤوسهم المقطوعة، وألقوا بها في حفرة ودفنوها”.

 

جاؤوا بالطائرات وقصفونا

قُتل 22 شخصاً في الهجوم على بونتي، إلا أن الحكومة الفرنسية تصر على أن الضحايا كانوا حصرياً من الإرهابيين الذين تشن فرنسا الحرب ضدهم في مالي. لكن رواية مادابل ومامودو ديالو، بالإضافة إلى شهود آخرين من باونتي، تتناقض مع هذه الرواية. يقول مادابل ديالو: “لم يكن هناك أي وهابيين. لم يكن لدى أحد أسلحة، ولا حتى سكين”. يقول المزارع عليو باري: “كنا نحتفل ثم جاؤوا بالطائرات وقصفونا!!”.

كان للمحققين من بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي، المعروفة باسم “مينوسما”، وجهة نظر مماثلة، حيث جاء في تقريرهم أنه على الرغم من أن ثلاثة من الضحايا ينتمون إلى كتيبة “سرما” الجهادية، إلا أن الباقين كانوا من المدنيين. ويتحدث فرانسوا لوكونتر، رئيس أركان الدفاع الفرنسي، عن “التضليل”، ويقول إن لقطات الطائرات بدون طيار ستبرئ جنوده، لكن الجيش يرفض نشر تلك الصور تحت عنوان السرية العسكرية.

تلقي حادثة بونتي الضوء على صراع يدور إلى حد كبير بعيداً عن الأضواء، فالجيش الفرنسي ينتشر في مالي منذ أكثر من ثماني سنوات. لكن ما بدأ في كانون الثاني 2013 كهجوم موجه ضد الميليشيات الوهابية، بشكل أساسي في شمال مالي، تحول إلى واحدة من أطول الحروب في تاريخ فرنسا الحديث.

نشرت باريس أكثر من 5 آلاف جندي في مالي والدول المجاورة، أي ما يعادل ثلث إجمالي قواتها في الخارج، كجزء من عملية برخان. وعلى الرغم من وجود الفرنسيين، تمكن “الجهاديون” من الانتشار في معظم أنحاء منطقة الساحل، في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون البلدان الأخرى، بما في ذلك ألمانيا، إلى المشاركة بشكل أكبر في محاربة الإرهاب. وبعد الانسحاب من أفغانستان، ستسجل مالي أكبر انتشار أجنبي للقوات المسلحة الألمانية، حيث يشارك حوالي ألف جندي ألماني حالياً في مهمة “مينوسما”. يقوم الألمان أيضاً بتدريب الجنود الماليين نيابة عن الاتحاد الأوروبي. على الرغم من ذلك، فإن التفويض الممنوح من قبل البرلمان الألماني يستبعد صراحة مشاركة القوات الألمانية في القتال الفعلي كجزء من عملية برخان.

تريد الحكومة الفرنسية وقف تقدم من تصفهم بـ “الجهاديين” في مالي، ووقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. ولكن عندما يتعلق الأمر بتفاصيل العملية، فإن باريس شديدة الصمت، حتى أن الحلفاء لا يتلقون إلاّ معلومات شحيحة.

 

الاحباط من الحكومة

تمثل مالي بالنسبة لفرنسا ما تمثله أفغانستان بالنسبة للولايات المتحدة، “حرب لا نهاية لها” يصعب كسبها على ما يبدو، وحرب تتسبب بوقوع المزيد والمزيد من الضحايا الأبرياء. وفقاً لبيانات الموقع الخاص بالنزاعات المسلحة “ACLED” غير الحكومي، قُتل حوالي 8 آلاف مدني في هجمات من جهات مختلفة، منذ عام 2013.

في جوسي، وهي بلدة في شمال شرق مالي، يقوم الجنود الفرنسيون بالدوريات جنباً إلى جنب مع نظرائهم الماليين. بعد ظهر أحد أيام شهر نيسان، كان الجنود الفرنسيون يرتدون سترات واقية من الرصاص، ويحملون بنادق، بينما يوقفون المركبات للتدقيق في الوثائق. يقول الضابط الفرنسي بنيامين: “نريد التأكد من الهويات”. بدأ مراهق يرتجف عندما أوقفته قوات الأمن على دراجته. “ما المشكلة؟”، يسأل بنيامين بالفرنسية، “لما أنت خائف؟”.. ينظر الصبي إليه بقلق، ويلبث الجنود الماليون في حيرة من أمرهم. فهم يأتون من مناطق مختلفة، ولا يتحدثون لغة جوسي.. اندفع أحد السكان المحليين أخيراً للمساعدة: “إنه طفل، هذا هو سبب خوفه”. يتفحص الجنود الهاتف المحمول للصبي ويدعونه يذهب.

في معظم الحالات، يتم إرسال الجنود الفرنسيين إلى مالي مدة ثلاثة إلى أربعة أشهر كجزء من عملية برخان. كثير منهم من الشباب، وغالباً ما يجدون صعوبة في تقييم الوضع على الأرض بشكل صحيح.

الفرنسيون، بمركباتهم المدرعة والطائرات المقاتلة والطائرات بدون طيار، متفوقون عسكرياً على خصومهم، لكنها كل هذه الأسلحة ضئيلة الفائدة عندما يتعلق الأمر بالواقع اليومي للحرب. وكما هو الحال مع الأمريكيين وحلفائهم في أفغانستان، فقد نجح الفرنسيون مراراً وتكراراً في عمليات القتل، لكنهم لم ينجحوا في إحلال السلام في المنطقة.

بعض المجموعات المسلحة التي تسيطر على أجزاء من الساحل لها صلات بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، أو القاعدة؛ والأهم من ذلك، أن الجماعات مترسخة بقوة داخل السكان، وقادرة على الاستفادة من الإحباط الذي يشعر به العديد من الماليين تجاه الحكومة المركزية.

تعتبر الحكومة في باماكو ضعيفة ينخرها الفساد، ففي الآونة الأخيرة، أطاح الجيش بالحكومة في انقلاب للمرة الثانية خلال تسعة أشهر. ويحكم مالي الآن العقيد أسيمي غويتا.

تتزايد الانتقادات الموجهة لنشر القوات في كل من فرنسا وألمانيا، ويطالب سياسيون من عدة أحزاب ألمانية بالانسحاب. لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تريد مواصلة المهمة، وقالت عقب اجتماع مشترك لوزراء حكوميين من ألمانيا وفرنسا: “نعتقد أن وجودنا على الأرض لا يزال مهماً.. كل ما قالوه لي هو أن فرنسا ليست مسؤولة عن قتل الناس في مالي”.

 

مدنيون يقتلون

بدأ تدخل فرنسا في مالي في العام 2013، بطلب من حكام البلاد، عندما اقترب المسلحون من العاصمة باماكو. زعم الفرنسيون أنهم يعتزمون البقاء في البلاد لبضعة أسابيع فقط، لكن القوة الاستعمارية السابقة انجرفت بشكل أعمق وأعمق في الصراع. وكلما طال القتال، زادت الخسائر، ولقي أكثر من 50 جندياً فرنسياً مصرعهم منذ بداية الحرب، كما قتل عدد أكبر بما لا يقاس من الماليين, دريسا مايغا، مزارع من وسط مالي، فقد زوجته وأطفاله الثلاثة في عام 2013، خلال هجوم صاروخي شنه الفرنسيون.. سعى مايغا دون جدوى للحصول على تعويض، لجأ إلى السلطات ووسائل الإعلام في مالي وفرنسا. يقول: “كل ما أخبروني به هو أن فرنسا ليست مسؤولة عن قتل الناس في مالي”.

الحكومة في باريس لا تحب الحديث عن الخسائر المدنية في حربها على الإرهاب؛ ووفقاً لوزارة الدفاع الفرنسية، قُتل سبعة مدنيين فقط في هجمات مباشرة شنها جنود فرنسيون منذ العام 2013. ومع ذلك، تشير التقارير الواردة من مالي إلى أن العدد الحقيقي للقتلى أعلى من ذلك بكثير؛ والتحقيق في هذه الحالات صعب حتى بالنسبة للدول الأخرى المتمركزة في مالي، مثل ألمانيا.

ونظراً لأن فرنسا تتصرف إلى حد كبير بمفردها بعملية برخان، فهي ليست مسؤولة أمام أي من شركائها في الأمم المتحدة. وعلى سبيل المثال، ليس لدى الألمان معرفة خاصة فيما يتعلق بالهجوم على بونتي. ولا يريد أحد في برلين، حتى وزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب كارينباور، التعليق على تقرير الأمم المتحدة الذي ينتقد القوات الفرنسية، مراعاة للحكومة في باريس. أصدرت وزارة الدفاع الألمانية بياناً مقتضباً بشأن هذه المسألة قالت فيه إن تقييم الحادث “غير ممكن”. قالت كرامب كارينباور في محادثة فيديو أجريت مؤخراً مع قادة الجيش الألماني في مالي وأعضاء البرلمان الألماني: “هناك حاجة إلى بعثة قوية لتأسيس مستوى أساسي من الأمن، حتى لو كان بعض الناس في بلدنا لا يحبون ذلك”.

تحاول باريس زيادة مشاركة الجيش المالي في العملية، إذ يقول الفرنسيون إنهم دربوا 18 ألف جندي مالي منذ عام 2014، لكن القوات المسلحة في مالي لا تزال ضعيفة التجهيز وغير منظمة، وغالباً ما يتفوق عليها المسلحون. ويتهم المراقبون بانتظام الجنود الماليين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، كما يزعم الجيش الفرنسي والقوات المسلحة الألمانية أنهما يريدان أيضاً تدريب حلفائهما الماليين لتحسين تفاعلهم مع المدنيين. يقول سيرج كامو، قائد برخان في غوسي: “نوضح لهم أنه لا يمكنك إزالة الأوساخ بالأوساخ”. ومع ذلك، يبدو أن عدد المدنيين الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن أكثر من الإرهابيين في منطقة الساحل العام الماضي.

يحتفظ الجيش المالي بقاعدة في بولكيسي، وهي قرية على الحدود مع بوركينا فاسو، وقاعدة حصنها الجيش الفرنسي. ومع ذلك، قُتل عدد أكبر من المدنيين في بولكيسي وحولها أكثر من أي منطقة أخرى نتيجة لهجمات الجيش المالي، إذ قتل 153 شخصاً في السنوات الثلاث الماضية وحدها، وفقاً لبيانات منظمة ACLED غير الحكومية.

شاهد تيدياني ديالو، وهو مراهق من بولكيسي، الجنود الماليين يدخلون بلدته، في العام 2018، بدعوى الانتقام لمقتل رفيق لهم. وهو يؤكد أنهم أطلقوا النار على الناس بشكل عشوائي، واعتقلوا زعيم القرية والإمام، وقالوا: “قلنا لك إذا مات أحدنا، سنقتل 20 منكم”.

 

الحماة والمحتلون

في كانون الثاني، أجرى جنود فرنسيون وماليون عملية مشتركة في بالقرب من بولكيسي، وداهموا عدة منازل أثناء عملية “بحث” عن إرهابيين. تم القبض على أربعة رجال. يدعي أحد الشهود أن الجنود الماليين ألقوا الرجال “مثل أكياس الأرز” في السيارة. وبعد يوم، عُثر على اثنين منهم قتلى على جانب الطريق، وعاد الثالث إلى منزله بعد أسبوعين من الحجز، والرابع لا يزال في عداد المفقودين، وقد فر جميع سكان بولكيسي منذ ذلك الحين.

الجانب المظلم للبعثة الفرنسية في مالي بعيد عن الأنظار إلى حد كبير. وفي الوقت نفسه، نادراً ما تُحاسب القوات المسلحة المالية على جرائم الحرب المحتملة. ويتزايد غضب بعض الناس في مالي من العملية العسكرية. ففي وقت سابق من هذا العام، نُظمت احتجاجات ضد فرنسا في باماكو: لم يعد البعض ينظر إلى الجنود الفرنسيين على أنهم حماة، بل كمحتلين.

من المحتمل أن الرئيس ماكرون يبحث عن طريقة على الأقل لتقليل انتشار القوات الفرنسية. في السنوات الأخيرة، اضطر إلى الوقوف أمام توابيت الجنود الفرنسيين مراراً وتكراراً. وبعد الانقلاب الأخير، كان من الأصعب تبرير المهمة سياسياً، ففي مقابلة أجريت معه مؤخراً، صرح ماكرون بشكل واضح أكثر من ذي قبل أنه لن يدعم “حكومة تفتقر إلى الشرعية الديمقراطية”.