مجلة البعث الأسبوعية

هل ستصبح أفغانستان فيتنام أمريكية أخرى؟ هزيمة الغرب مدوية وطالبان لم تعد بحاجة إلى الدخول في مفاوضات سلام وهمية

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

بعد اختفاء الشيوعية، تباهى صموئيل هنتنغتون بانتصار الرأسمالية عقب الحرب الباردة مؤكداً أن العالم يشهد “نهاية التاريخ”، بينما أعلن الممثل الأكبر للولايات المتحدة، جورج بوش الأب، ظهور النظام العالمي الجديد مع نهاية الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق، بداية عام 1991. وكجزء من استراتيجية الشرق الأوسط الكبير التي دعا إليها المحافظون الجدد المحيطون بجورج دبليو بوش، تشيني وبول وولفويتز ودونالد رامسفيلد، كان من المقرر وضع منطقة الشرق الأوسط بأكملها، من القوقاز إلى شمال أفريقيا، ومن هناك إلى بنغلاديش والهندوكوش (وهي سلسلة جبال في أفغانستان وشمال غرب باكستان)، تحت سيطرة الولايات المتحدة. وهكذا قدمت هجمات 11 أيلول 2001 فرصة ذهبية لتنفيذ استراتيجية الشرق الأوسط الكبير.

وهكذا، وبينما كانت حركة طالبان تسيطر على أفغانستان، بدأت الطائرات المقاتلة الأمريكية عمليات القصف، في 7 تشرين الأول 2001. وبعد القضاء على نظام طالبان خلال أربعة أسابيع، تحركت الوحدات الأمريكية لغزو العراق، بداية عام 2003، لكن طالبان عاودت سيطرتها، وبقوة أكثر، على السلطة في أفغانستان عندما كانت رحى الحرب محتدمة بشراسة في العراق.

ومع ذلك، لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو قادرين على هزيمة طالبان، حتى من خلال نشر ما يصل إلى 150 ألف جندي على الأرض. وبين عامي 2001 و2014، بلغت تكلفة الحرب ذروتها بمعدل 1.5 مليار دولار في الأسبوع. وبصرف النظر عن سقوط 2500 جندي أمريكي في ساحة المعركة، لم يعد القتال مجدياً من الناحية المالية على المدى الطويل. ووفقاً لوثيقة مؤرخة في 22 آذار 2021، نشرتها إدارة أبحاث “يتاتيسات” الأمريكية، فقد سقط أكثر من 3596 جندياً من التحالف الغربي، بين عامي 2001 و2020.

وفقط عندما انقلبت الاستراتيجية الأمريكية في جبال هندوكوش رأساً على عقب، بدأ التفاوض مع طالبان في الدوحة، سراً ولسنوات عديدة، ثم رسمياً مدة عامين، قبل التوقيع على اتفاقية في شباط 2020، وافقت الولايات المتحدة بموجبها على سحب قواتها من أفغانستان قبل نهاية نيسان 2021. وفي محاولة لإثبات حسن نواياها، التزمت طالبان، في ملحق سري للاتفاق، على حماية القواعد العسكرية الأجنبية من هجمات الجماعات الناشطة الأخرى، وهو ما لم تتمكن من القيام به.

 

مناورات بايدن

شكك الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن بالانسحاب المقرر حتى نهاية نيسان 2021، من قبل سلفه دونالد ترامب. وبعد فترة وجيزة من توليه منصبه، أمر بمراجعة الاتفاقية.. كان هدفه مناقشة تأجيل الانسحاب مع طالبان حتى يُسمح للقوات بالبقاء “لفترة أطول قليلاً” في منطقة هندو كوش. في السياق، قال آدم سميث، رئيس لجنة قوات الأمن بمجلس النواب الأمريكي، في 24 آذار 2021: “من غير المعقول عملياً سحب أكثر من 10 آلاف جندي على مدى ستة أسابيع”. بعد اجتماع لوزراء خارجية الناتو، أعلن الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، أنه لا يوجد حتى الآن قرار نهائي، علاوة على ذلك، لا يمكن ضمان الانسحاب بحلول نهاية نيسان، كما جرى الاتفاق، ولو لأسباب لوجستية فقط. وفي 29 آذار 2021، كرر الرئيس بايدن أنه لا يعتزم الخضوع لضغط الموعد النهائي المتفق عليه، ولا يمكنه التفكير في الحفاظ على تمركز القوات الأمريكية في هندوكوش العام المقبل.

ومع ذلك، تصر طالبان على أن تحترم الولايات المتحدة الاتفاق، حيث قال المتحدث باسمها إنه إذا لم تمتثل إدارة بايدن للاتفاق، فإنها “بالتأكيد ستجعل المشاكل أسوأ، وأولئك الذين لم يحترموا الاتفاق سيفعلون ذلك. وكما هو الحال في كل عام، أعلنت حركة طالبان هجوم الربيع بهدف إجبار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الانسحاب هذا العام. لكن من شأن ذلك أن يرقى إلى مستوى الطرد الفعلي للقوة الرائدة في العالم من هندوكوش، ولن يجعل فك الاشتباك المنظم للقوات المسلحة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي ممكناً في أفغانستان.

وبالتالي، يجب أن يكون الرئيس الأمريكي بايدن قد أدرك أنه لم يعد لدى الولايات المتحدة أدنى مصلحة للبقاء في أفغانستان؛ وفي 13 نيسان 2021، أمر بسحب جنوده في أيلول 2021. ووفقاً لما أوردته “واشنطن بوست”، فانه بحلول 11 أيلول يجب سحب جميع الوحدات الأمريكية دون قيد أو شرط من هندوكوش، دون أي اعتبار لطالبان. وبحسب بايدن، حان الوقت لإنهاء أطول حرب أمريكية.. وحان الوقت ليعود الجنود الأمريكيون إلى الوطن”، مؤكداً أنه الرئيس الرابع الذي تشارك القوات المسلحة الأمريكية في ظل تفويضه في صراع في أفغانستان، وأنه لن ينقل هذه المسؤولية إلى رئيس خامس”، وشدد على أن من الصعب إطالة أمد الجهد الحربي “على أمل أن تكون الظروف مواتية في مرحلة ما لانسحاب مثالي”.

لذلك حتى الخاسر يمكنه التعبير عن خسارته بطريقة تجعله يشعر بالرضا. وهزيمة الغرب مدوية لدرجة أن طالبان لم تعد بحاجة إلى الدخول في مفاوضات سلام وهمية. ومن الآن فصاعداً، ستغادر القوات الأجنبية عملياً مطأطئة رؤوسها، ودون مراسم وداع.

لكن ماذا سيحدث للمرتزقة الأجانب العاملين في أفغانستان لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وأجهزة استخبارات الناتو الأخرى؟ يقدر أسعد الله والولجي، الخبير في الشؤون العسكرية في كابول، أن هناك حوالي 40 ألف مرتزق متعاقد مع حوالي 50 شركة عسكرية مختلفة، معظمها أمريكية، “للقيام بالأعمال القذرة”، ولم ترد أي إشارة لمغادرتهم أو انسحابهم.

وتجدر الإشارة هنا إلى الخطاب الذي ألقاه رومان هيرزوغ، رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية، في 26 نيسان 1997، في فندق أدلون في برلين، والذي تحدث فيه بشكل قاطع عن طموحات ألمانيا كقوة عظمى: “المنافسة العالمية الهائلة هي قيد التنفيذ: إعادة توزيع الأسواق العالمية آخذة في التطور، وكذلك آفاق الازدهار في القرن الحادي والعشرين، لقد حان الوقت الآن للبدء في تعويض الوقت الضائع”.

للمرة الثالثة، كان يُنظر إلى أفغانستان على أنها رقعة شطرنج لعبت عليها طموحات ألمانيا العالمية. ومع ذلك، كان لا يزال يتعين عليها انتظار المناسبة، وكانت هجمات 11 أيلول ذريعة ممتازة.. وحتى لو لم تكن موجودة، لكانوا أوجدوها، فقد أعلن المستشار جيرهارد شرودر (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) تضامن ألمانيا مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق، تم استخدام “مبدأ التحالف” لأول مرة، وفقاً للمادة 5 من معاهدة الناتو؛ كما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضاً أن ألمانيا لم تكن هي التي دفعت الناتو، في عام 2002، إلى وضع أفغانستان تحت سيطرتها. لقد كانت حكومة شرودر / فيشر هي التي فتحت المجال أمام الطبقة السياسية والعسكرية الألمانية للمشاركة في الحرب ضد أفغانستان.

خلال 20 عاماً من “الاشتباك” العسكري في هندوكوش، أرسلت جمهورية ألمانيا الاتحادية ما مجموعه 16 ألف جندي إلى القتال، من بينهم 1100 جندي أرسلتهم في الفترة الأخيرة. وقد دفع 59 جندياً حياتهم ثمناً لذلك. ومنذ عام 2001، كلفت مهمة الجيش الألماني هذه أكثر من 12 مليار يورو، بحسب تصريحات وزارة الخارجية الفيدرالية؛ ورغم الخسائر المادية والبشرية، يعتقد وزير الخارجية الألماني الحالي، هيكو ماس (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) أن “كل هذا لم يذهب سدى”، معلنا استمرار الالتزام السياسي والتمويل الألماني في هندوكوش. وقال ماس “إن عملية السلام تحتاج إلى دفعة دبلوماسية جديدة”. وبالنسبة للعام الحالي، تعهدت حكومة جمهورية الأرجنتين بتقديم مبلغ 430 مليون يورو لسنوات متتالية حتى حلول العام 2024، لكن الإفراج عن هذه الأموال يعتمد على تطور “عملية السلام” بين ممثلي إدارة كابول وطالبان. ولا يبدو أنه تم تحديد ما إذا كانت الحكومة الفيدرالية ستتعاون أيضاً مع حكومة طالبان، لأنه “في وقت مبكر من كانون الثاني 2021، تم الإعلان عن النوايا الأمريكية لتشكيل حكومة انتقالية لأفغانستان تضم طالبان”.

 

حجة حقوق المرأة

في أفغانستان، لم تهتم الولايات المتحدة بحقوق المرأة أو بحقوق الإنسان، بل وبأفغانستان نفسها، فقد اهتمت فقط بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، والتطويق المحتمل للاتحاد الروسي وتغيير النظام في إيران.

صممت الولايات المتحدة منطقة هندوكوش بأكملها لتكون حاملة طائرات غير قابلة للغرق لاستخدامها. لكن السياق المحلي تغير اليوم، ومعه تغيرت أولويات الاستراتيجية الأمريكية. وفي المستقبل المنظور، ستكون جمهورية الصين الشعبية قادرة على اللحاق بالولايات المتحدة، إن لم تتفوق عليها اقتصادياً، وحتى عسكرياً.

في نهاية عام 2017، صنفت “استراتيجية الأمن القومي” الأمريكية جمهورية الصين الشعبية بين “منافسيها الاستراتيجيين”. واليوم، تحت قيادة بايدن، ستحاول الولايات المتحدة أيضاً تطويق جمهورية الصين الشعبية صناعياً، إن لم تمنع عرقلة وتأخير انضمام هذا البلد إلى مرتبة القوة العالمية في المستقبل.

وتماشياً مع هذا الهدف، أقامت الولايات المتحدة بالفعل تحالفات عسكرية إقليمية مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين وتايلاند وسنغافورة وفيتنام وماليزيا وإندونيسيا، وأخيراً الهند، وهي أيضاً قوة نووية. وامتد الصراع الإقليمي في بحر الصين الجنوبي، والذي يمثل 80٪ من سطحه مطالبات صينية، إلى بعض الجزر الصغيرة التي تم غزوها.. تحت ذريعة “الذرلئع التاريخية التي يزيد عمرها عن ألفي عام”، يمكن أن تستغل الولايات المتحدة هذا الصراع بهدف إثارة الخلاف وإطلاق نيران الحرب ضد الصين.

لذلك، تمت تنحية أفغانستان جانباً في الوقت الحاضر، إذ تريد الولايات المتحدة تركيز قواتها على مستقبل هذه المنطقة الجيوستراتيجية المهمة التي تمثل فجر قرن آسيوي؛ والمكان الذي ستتم فيه السيطرة على العالم هو منطقة المحيط الهادئ. ويهدف انسحاب القوات المسلحة المتمركزة في أفغانستان والدول المجاورة على وجه التحديد إلى بناء حاجز أمام المعالم الصينية في المحيط الهادئ.

 

تقييم الكارثة

لقد سببت عشرون عاماً من الحرب بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان “دماراً” حقيقياً وهائلا للبنى التحتية والاقتصاد وللحياة الطبيعية، عدا عن عدد الضحايا الكبير، حيث قتل ما لا يقل عن 100 آلاف مدني أفغاني. ووفقاً للأرقام الصادرة عن الحكومتين الأفغانية والأمريكية والأمم المتحدة، فقد قُتل أيضاً 66 ألف عنصر من قوات الأمن الأفغانية، وأربعة آلاف جندي من القوات الدولية. من جهة أخرى، غدا الدعم المباشر من دول الناتو لأمراء الحرب والفساد والمحسوبية والتجزئة العرقية وثقافة المخدرات والاتجار بها واستعراض القوة، وحتى عمليات الاختطاف، أمراً شائعاً؛ كما باتت أجهزة الدولة بكاملها، القضائية والتنفيذية والتشريعية، فضلاً عن الأجهزة الأمنية، موبوءة بفيروس الفساد. كما يتم تداول الوظائف مثل السلع الأساسية في السوق، وكلما زادت احتمالية الفساد في الوظيفة ارتفع السعر الذي يجب دفعه. وبالتالي، يمكن الوصول إلى مناصب السفراء بمبلغ يصل إلى 40 ألف دولار أمريكي.

وبالطبع، تذهب الفتيات إلى المدرسة، لكن الخريجين يجدون صعوبة بالغة في العثور على وظيفة. لقد مضى وقت طويل منذ أن قامت النخبة بتحويل دولاراتها إلى البنوك في دبي، وهم الآن جالسون على أمتعتهم المربوطة، وعلى استعداد للذهاب. النساء لديهن أكبر أعداء، وهم الحكومة وأمراء الحرب وطالبان، وكذلك الناتو. وهناك خطر كبير من محاولة طالبان استعادة السلطة في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي. وينعكس هذا أيضاً في زيادة العنف الذي سيكون الضحايا الرئيسيون له النساء والفتيات؛ وتتحمل الولايات المتحدة مسؤولية جسيمة في هذا التطور. لقد كان الغزو قبل عشرين عاما قائما على توقعات خاطئة. وعلاوة على ذلك، خلال كل هذه السنوات، كان من المستحيل ضمان الاستقرار وإعادة بناء البلاد.

 

ماذا سيحل بأفغانستان؟

منذ بداية العام 2021، حذر خبراء مجموعة الدراسة الخاصة بأفغانستان، والمعينة من قبل الكونغرس الأمريكي، “من أن الانسحاب السريع من شأنه أن يؤدي إلى انهيار أفغانستان”، وأن مثل هذا “الاحتمال يمثل كارثة للولايات المتحدة وحلفائها” في برلين ولندن وباريس؛ والآن، وبعد تحديد موعد انسحاب القوات من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ما هي مصلحة طالبان في التفاوض مع معسكر كابول؟ “عليهم فقط الانتظار بضعة أشهر قبل اقتحام العاصمة الأفغانية”.

وقد وضع المحللون السيناريوهات التالية عقب الانسحاب الأمريكي:

– قد تفر النخبة السياسية والعسكرية الأفغانية فور انسحاب وحدات الناتو، مفضلة حياة هادئة وممتعة في المنفى على الانخراط في حرب أخرى مع طالبان، وعندها ستكون طالبان هي الحاكمة الوحيدة للبلاد، كما كانت منذ عام 1996.

– قد تنجح حكومة الولايات المتحدة في إقناع حركة طالبان بتشكيل حكومة ائتلافية مع الإدارة في كابول، من خلال تقديم مقترحات مالية مختلفة إلى جانب تلك المتعلقة بالتنمية.

– إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن المحتمل جداً أن يؤدي الانسحاب إلى حرب أهلية شبيهة بحرب عام 1992 التي أدت إلى تدمير جزء كبير من كابول، ومقتل أكثر من 50 ألف شخص.

– لا يبدو أن لدى الولايات المتحدة خطة بديلة لأفغانستان، أو هي لم تكشف عن أي منها حتى الآن. وبالتالي، فإن استخدام وحدة تابعة للأمم المتحدة، مؤلفة من قوات حفظ سلام من دول عدم الانحياز، ومنظمة الدول الإسلامية، لتحل محل القوات المسلحة لحلف شمال الأطلسي، ويجب أن تكون مغطاة بصلاحيات موسعة، سيكون ضرورياً للغاية لضمان السلام خلال المرحلة الانتقالية حتى استقرار الوضع الداخلي في أفغانستان.