الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بــــــابُ الفــــــــرَج

د. نضال الصالح

حشدٌ من الناس في ساحة أعرفها، أمام مبنى أعرفه، في مدينة أعرفُها، ثمّ يهدأ كلُّ شيء، يغيبُ، لا ساحةَ، لا مبنى، لا أحدَ، لا أحد.

ترجّني أمّي من كتفيّ، تمسحُ العرَقَ الطائشَ في جبيني، وشأنها كلّ مرة تستعيذ، تبسملُ، تحوقلُ، ثمّ تغطّ الشاشَ في ماء مثلّج كانت أعدّته قبل أن تأوي إلى النوم، فيستقرّ فوق جبيني الجمر، وعندما تطمئن إلى أنني بلغتُ قاعَ النوم، تُهرعُ إلى ثوب صلاتها، وبين ركعة وأخرى تطيلُ السجودَ، وتدعو لي بأن يباركني الأربعون ولياً من أولياء “الصالحين”، فلا أرى ما أراه، بل ما كنتُ أهذي به كلّ ليلة، ثمّ تشتمُ بصوت أكادُ أسمعه: “أبو الكتب”.

كلَّ يوم، وقبل أن أعودَ من المدرسة إلى البيت، كنتُ أمضي إلى دار الكتب الوطنية في “باب الفرج”. أمطّ طولي ما استطعتُ، أقف على أصابع قدميّ، ليراني الموظف من النافذة التي يجلس وراءها، فيقرأ ما دوّنتُ على البطاقة، ثمّ يدفع بالكتاب إليّ. وكلَّ يوم، بل كلّ ليلة، كانت أمّي تنهضُ على الصوت نفسه الذي كانَ يمزّقُ هدأتها بعد نهار شاقّ في العمل على آلة الخياطة، وفي شؤون سبعةٍ من الأطفال ورجلٍ ما إن كانَ يضع رأسه على الوسادة حتى كانَ يغطّ في النوم بعدَ أنْ أعياهُ النهارُ في اللهاث وراءَ ما يقيه الحاجة إلى أحد.

بابُ الفرج، البابُ الذي أنشأه الظاهر غازي، ثمّ هُدمَ مطلع القرن العشرين ولم يبقَ منه غيرُ برجه الجنوبيّ. الساعةُ الباسقةُ في منتصف الساحة، الشاهدةُ على عمليات الإعدام بالشنق منذُ الاحتلال العثمانيّ. دارُ الكتب الوطنية. الكتبُ. الأحلامُ / الكوابيسُ الآنَ أيضاً وقد دهمَ حلبَ جرادٌ من معظم جهات الأرض. وكلّ ليلةٍ، كلَّ ليلةٍ أهذي بالحلم / الكابوس نفسه، الحلم الذي يتقافزُ في خلفية الصور منه كُتّابٌ زيفٌ، إعلاميون زيفٌ، ناشطون، سياسيون. ربيعٌ زيفٌ، ثوراتٌ، فضائياتٌ، ملوكٌ، أمراء، أصحاب سموّ، فخاماتٌ. زيفٌ، زيفٌ طاغٍ، يلتهمُ الألوانَ كلّها، ولا يُبقي منها سوى الأسود. فأصرخُ، حتى يرتطمُ الصوتُ بالصوتِ، وكنتُ، قبلَ أن يتداعى هذا الجرادُ، أرتّبُ العالَمَ على هوايَ، أستجمعُ طينه بين كفيّ، وأعيدُ تشكيله، وعندما أرتطمُ بالزيفِ أستعيدُ بيتَ الشاعر القديم: “ما أطيبَ العيشَ لو أنَّ الفتى حجرٌ، تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ”. وكنتُ، وكلّما دهمني يأسٌ، أستعيدُ وجه ابنة الجيران، الذي تورّدَ، فكاد يصير بلون الجمر، عندما أهديتها أوّل وردة، فأهدتني أوّل لثغة بالحياة. وجهَ الفتاة التي فتنتني منذ رأيتها أول مرة في دار الكتب، التي كانت تغدقُ عليّ من نُعميات روحها روحاً لروحي قبلَ أن تشظّي جسدَها قذيفةٌ من “قذائف جهنّم”.

حشدٌ من الناس في ساحة أعرفها، أمام مبنى أعرفه، في مدينة أعرفها، ثمّ يظهرُ من بين الحشد بابٌ، ومن الباب يبرزُ وجهُ امرأة أعرفها. امرأة تشبه أمّي، ولم تكد المرأة تزيحُ الوشاحَ عن وجهها، حتى هتفتُ: بابُ الفرَج.. سورية.