الممثل “السورداني” ياسر عبد اللطيف: وداعاً
بداية جافة لخبر محزن، لكنها تحمل عبرة لحالة فنية لها دلالتها النبيلة لدينا كسوريين، تاريخ العلاقات العربية – العربية خرجت منه صدف سعيدة! واحدة من تلك الصدف النادرة، هي عندما تسبب الخلاف الحاصل بين مصر والسودان، نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، بتغيير مسار حياة إنسان أسعد الكثير من الناس، الشاب السوداني الطامح لدراسة التمثيل في مصر، درس في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقرب من ساحة الأمويين، وعلى بعد خطوات من المرايا الملونة التي حملها نصب السيف الدمشقي الشهير.
الفنان العربي ياسر عبد اللطيف، أو الفنان “السورداني” – كما كان يصف نفسه – والذي خذلته نبضات قلبه في أحد مشافي السودان، اتقد نبضه بين أفئدة السوريين في دمشق، التي غادرها “بعد عشرة عمر” كما يُقال، عاشها هذا الإنسان كواحد من السوريين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أولئك الذين أحبوا هذا الفنان البارع على خشبات مسارحهم، وأمام الكاميرات في دراماهم التلفزيونية، دون أن يشعروا – وهذا من طبيعتهم بكل حال – أنه ممثل عربي أفريقي يحمل صفات شكلية مختلفة – حسب الطبيعة في أفريقيا – عن الممثلين المحليين، فالأداء البديع الذي قدمه هذا الممثل المتمكن من أدواته في التعبير، إن كان في الدراما المسرحية المحلية، والتي كان من الصادقين في علاقته معها عندما قرر أن يصبح ممثلاً مسرحياً، وحتى نهاية حياته، أو في الدراما التلفزيونية التي استقطبت هذا الممثل البارع، بعد أن شاهد أهم المخرجين السوريين، الأداء المتقن والسلس الذي قدّمه، رغم محاولة التنميط التي تعرّض لها بحكم سمرته، وتلك كانت واحدة من أهم المميزات الطبيعية لديه، والتي لم يعرف الاستفادة منها والبناء عليها، إلا القليل من صُناع الدراما المحلية، لكنه استطاع أن يكون من أصحاب الحضور المميز في كل شخصية قدمها، أفرح الجمهور بأدواره التي حملت الطابع الكوميدي، ورسم الضحكة على وجوههم، أبكاهم في واحد من أهم الأدوار التلفزيونية التي قدمها في مسيرته الفنية “ياقوت” في مسلسل “الزير سالم” –ممدوح عدوان – حاتم علي – فشخصية ياقوت حملها هذا الفنان من بين الأدوار المساعدة، إلى دور رئيسي رغم مساحته الصغيرة نسبياً، وذلك من خلال الأداء الصعب الذي اشتغل عليه في هذه الشخصية، التي بدأت في مرحلة الفتوة وانتهت في عصر الكهولة، وما وضعه من إمكانيات تمثيلية فيها أنهضتها، مؤكداً واحدة من الحكم الفنية الراسخة عند الممثل المحترف: “ما من دور رئيسي وآخر ثانوي، الممثل هو من يجعله كذلك إن كانت الشخصية مكتوبة كما يجب”.
قرابة ربع قرن من الزمان، اشتغل فيها الممثل الراحل في العديد من أهم أعمال الدراما التلفزيونية المحلية، ومنها “حكايا المرايا” مع الفنان الكبير ياسر العظمة، سلسلة “بقعة ضوء” ، “الزير سالم” و”جرن الشاويش” وغيرها، موظّفاً العديد من مفردات بيئته المحلية في أدواره، وحاملاً أميناً للهجة بلاده، تلك التي كان من الممثلين العرب الأفارقة الذين جعلوها أقرب للفهم عند الجمهور المحلي والعربي بطبيعة الحال، غير المعتاد عليها، نظراً لعدم انتشار الدراما المحلية السودانية، متواضعة الإنتاج.
الفنان الراقي والخلوق، كما أشاد بذلك معظم زملائه في المهنة من الممثلين المحليين، وهكذا وصفوه على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف منصاتها، بعبارات حملت عميق مودتهم وحزنهم لرحيله الأخير، سواء كانوا من جماعة الوسط الدرامي – كُتّاب/ نُقاد – أو من الجمهور على حد سواء، وكان من بين تلك النعوات، ما كتبه الفنان قاسم ملحو على صفحته الشخصية: “وبدأ عنقود دفعتنا بالقطاف، وأول حباته ياسر عبد اللطيف.. الرحمة لروحك أيها المبدع، وأراح الله روحك القلقة، وربما لن تنتظرنا طويلاً”، مرفقاً ما كتبه ببعض الصور التي جمعتهما.
أيضا كتب الفنان باسم ياخور عبر حسابه على منصة إنستغرام: “زميل الدراسة وخريج دفعتنا الأستاذ ياسر عبد اللطيف، المحب الجميل القلب والروح في ذمة الله.. رحمك الله يا ياسر، وأسكنك فسيح جنانه”.
ومن الكًتاب نعى الكاتب حسن م يوسف الفنان الراحل على صفحته الشخصية: “شارك الفنان المبدع ياسر عبد اللطيف خلال العقدين الماضيين في عدد من المسلسلات والمسرحيات السورية، وعمل أستاذاً لمادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، الذي تخرج منه عام 1993 مع عدد من ألمع النجوم: باسم ياخور، آمال سعد الدين، شكران مرتجى، قاسم ملحو، مهند قطيش، وفرح بسيسو. الرحمة للفنان القدير ياسر عبد اللطيف وأحر التعازي القلبية لذويه ولمحبيه”
الخبر جاء صادماً ومحزناً لطلابه في المعهد العالي للفنون المسرحية، بعد أن أكدوا كطلاب أولاً ثم كزملاء مهنة، أهميته كمدرس لهذه المهنة الشاقة، بما لديه من خبرة عالية بتفاصيلها، اكتسبها من خشبة المسرح التي أحب وهوى قلبه، ووهبهم إياها بكل محبة.
الفنان الراحل من مواليد مدينة سنار 1971. انتقل إلى دمشق مع بداية التسعينيات، بدأ دراسته في المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية، وتخرّج سنة 1993، وعمل في المعهد بعد تخرجه لخمس سنوات معيداً ومساعد مدرس ثم مدرساً لمادة التمثيل، إلى ما قبل العام 2013 حيث اضطر بسبب ظروف الحرب للعودة إلى بلاده التي أسس فيها فور عودته “مختبر الخرطوم المسرحي”، وهذا ما يدل على الأصالة التي هي من صفاته الشخصية، عندما عمل على النهوض بالمسرح في السودان، باعتماده على أجيال شابة من بلده، مستعيناً بالخبرة العلمية والعملية التي مكّنته منها دمشق، المدينة التي بقي يكن لها الوفاء والمحبة بعد أن وجدهما يعانقانه كما يعانق الياسمين شرفات السوريين وقلوبهم.
تمّام علي بركات