سليمان العيسى نذر شعره للعروبة والأطفال
التقيتُ به في مدينة مراكش – المغرب، في مهرجان الشاعر المعتمد بن عباد، وكان مجمل المحاضرات يدور حول الشاعر وكيف أضاع ملكه في الأندلس، وكيف تمكّن يوسف بن تاشفين من استرداد هذا الملك. كان الحضور لا بأس به نسبياً، مع العلم أنهم جمعوا لهذا المهرجان: كتاباً وأدباء وشعراء وشاعرات وممثلات ومتأدبين ومتأدبات، ولكن ظلت القاعة دون المرجو منها ولم تستوعب إلا دون المستوى المطلوب، وكان عدد المحاضرين خمسة أو ستة، عرباً وأمازيغ.
وعندما جاء دور سليمان العيسى وكان ضيفاً على المهرجان، امتلأت القاعة بالحضور، وبالواقفين، وحين دخل ضجّت القاعة بالتصفيق، لقد جاء شاعر العروبة.. دقائق قليلة إلى أن ساد الصمت، وبدأ الشاعر يغرّد والشعر ينسال من حنجرته، والحاضرون كأنّ على رؤوسهم الطير، وشعرت بالفخر يملأ كل خلية من جسدي، فها هو شاعر من بلدي، إنه يمثّلني ويعيد إليّ نشوتي بالشعر وبالعروبة.
ولد الشاعر سليمان العيسى في قرية النعيرية التابعة للواء اسكندرون عام 1921 على ضفاف نهر العاصي الذي يخترقها ويمنحها الحياة وتتلمذ على يد أبيه، شيخ الكتاب في القرية، ثم حفظ القرآن الكريم وشعر المتنبي، ومنذ طفولته تقرّر أن يكون شاعراً. كان من أسرة فقيرة، ليس لها إلا ما تغلّه الأرض الصغيرة والتي تزرعها الأسرة بنفسها، وانتقل بعدها إلى مدينة أنطاكية ليتمّ دراسته، ثم إلى حماة واللاذقية فدمشق، وشارك في النضال الوطني، وفي عام 1947 استقر في حلب مدرساً للغة العربية ومشاركاً في الكفاح الوطني، وبسبب مواقفه هذه زار السجن عدة مرات، وفي حلب تعرّف على ملكة أبيض وكانت تحضّر الليسانس في العلوم التربوية في بروكسل في بعثة تابعة لوزارة التربية، إنها تقوم بزيارة أهلها خلال العطلة الصيفية، وقد تعرفت عليه، وتقول هي عن ذلك: “التقيت سليمان في بيتنا، وكان قد سبقني إليه مدرّساً لأخواتي ومعيناً لهن في التحصيل، كان الجميع يحبونه ويقدّرونه، وبعد التعرف عليه دار حديث، تلاه دعوة إلى محاضرة ثم نزهة في المدينة وأحاديث بدأت في صيف 1949، وتخلّلها فاصل قصير عدت فيه إلى بروكسل لأكمل السنة الجامعية الأخيرة وأحصل على الشهادة، وقد أعلنا خطبتنا واتفقنا على الزواج بعد عودتي إلى حلب، ثم عدت بعد أن نلت الشهادة. وفي السابع عشر من أيلول بدأت حياتنا الزوجية. وهكذا رأيتني أمضي معه في الدرب نفسه وأشاطره الكفاح”. وقد أنجبا معن وغيلان وبادية. وفي العام 1967 انتقل الشاعر وزوجته إلى دمشق وعمل في وزارة التربية موجهاً أوَل لمادة اللغة العربية، ورفيقة الدرب مدرّسة في جامعة دمشق، بعد حصولها على الماجستير.
في هذا العام بدأت تجربة سليمان العيسى في الكتابة للأطفال، وقد وجد النور في عيونهم، إنه لم يكتب لهم ليسليهم، بل لينقل لهم تجربته القومية والإنسانية، وقد جمعت في دواوين الأناشيد.
نتاج غزير لم يسبقه شاعر من شعراء العروبة، لقد نذرَ نفسه للشعر منذ أن كان في العاشرة من عمره، إنه شديد الإتقان، تخرج القصيدة من بين يديه مضبوطة الشكل مشروحة، والشعر لم يكن تعبيراً ذاتياً عن نفسه بقدر ماكان رسالة موجّهة إلى الأمة، فالعروبة نسيج حضاري هائل، ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وقد قال في ذلك:
وأبعد نحن من عبس ومن مضر، نعم أبعد
حمورابي وهاني بعل بعض عطائنا الأخلد
ومن زيتوننا عيسى ومن صحرائنا أحمد
في منزله في الشعلان تكوّن فكره وتكوّنت الرؤية العامة للعالم ولموقع الأمة العربية من هذا العالم، واللواء قريب بعيد: قريب يكاد يلمس كل الزوار أرضه، ونكاد نحن أن نلمسه في شعره لأنه حاضر باستمرار.
وكتب د. عبد العزيز المقالح عنه ما يلي: “سليمان العيسى.. الرجل الهادئ الوقور الذي يبدو ماكناً من الخارج وفي قلبه مرجل دائم الاحتراق، وربما في الصورة شاعراً مرهف الإحساس رقيق العاطفة، وهو كذلك حقاً لكنه في المواقف الحاسمة إنسان آخر قاطع كالسيف، حاد كالحقيقة”.
أما د. عبد الله الغذامي فقد وصفه بقوله: “كان سليمان العيسى صوتاً عربياً يهزّ ضمائرنا ويملأ تصوراتنا.. إنه ضمير كل عربي مثّل ويمثّل لنا قاعدة وموقعاً إنسانياً وتاريخياً، وكان الصوت الذي إذا قال قلنا معه وإذا تحرك تحركنا معه وإذا جاءت قصيدته سارت بيننا بالتناوب حتى لترى بصمات أصابعنا على الورق.. وترى عرقنا على الكلمات وهي حبات رملنا وقطرات مائنا ولون عواطفنا”، إنه لايزال على إصراره في التعلّق بحلمه وثقته بأن أمته ستصل إلى فجر جديد ويترجمه بقوله:
ويمرّ من فوقي صهيل فواجعي وأصرّ أن سراب رملي واعد
إن سليمان العيسى ظاهرة قومية في شعوره وفي شعره، لأن تطورات حياته هي تطورات شعور قومه. قالت عنه الأديبة كوليت خوري ما يلي: “لقد قاتل بالكلمة.. ناضل بها طوال نصف قرن حتى أننا اليوم ما عدنا نستطيع أن نميّز في شخصه الشاعر من المناضل، ولا أن نفرّق في شعره الطلقة من النغمة ولا أن نفرّق بين الحبيبة والوطن.
أنا في أعماق قومي صرخةُ تتشظَى لا قصيد يقرأ
حسب لحن ينتهي في وتري أنه في صدر غيري يبدأ
سليمان العيسى.. منذ زمن بعيد وأنا أريد أن أكتب عن هذا الشاعر من بلادي الذي حضن الوطن في صدره ثورة ومحبة وألحاناً”.
سافر سليمان العيسى مع زوجته إلى اليمن وأقام هناك سنوات عديدة، وأنتج فيها من الشعر والحكايات المترجمة الكثيرة، وكُرّم في اليمن تكريماً يليق به، فأطلق اسمه على بعض القاعات الثقافية في جامعتي صنعاء وعدن والمكتبة الوطنية.
وهكذا يظل سليمان العيسى أحد أعلام الشعر الحديث وأكثرهم عناية بالأطفال، وقد سدّ بإنتاجه الغزير فراغاً كبيراً في المكتبة العربية، ويكفي أن نعلم أن معظم الكتب المدرسية تدرّس أناشيده للصغار وقصائده للكبار وتجعلها على كلّ شفة ولسان بالحفظ والدرس.
لقد قلت له في المغرب: أستاذ سليمان.. أنت أوَل من أدخل الشعر الحديث إلى المناهج المدرسية، فابتسم دون أي تعليق!
فيصل خرتش