“لستُ المكان المفضل ليجلس على رأسي المقعد” لـ مازن الخطيب
“لست المكان المفضل ليجلس على رأسي المقعد”، العنوان السريالي الذي حملته مجموعة الشاعر مازن الخطيب الشعرية، وهو أي العنوان بمثابة دعوة مفتوحة إلى رحلة مواربة لقارئ سيخطو أول ما يخطوه في الفراغ المخادع، كونه – أي العنوان – سيمارس نوعاً من الاستلاب والمصادرة الحسية الانفعالية للقارئ، وهو يستعد لتلقي موجة ارتدادية شعرية متنوعة من الخيارات التأويلية المفتوحة للعنوان، وبالتالي عمّا يتوقع أن يقرأه من قصائد مختلفة بمفرداتها اللغوية وتراكيبها الشعرية وصورها الدلالية، الاختلاف الذي ينسحب بدوره على المضامين الصادمة والمفاجئة – الخطوط العريضة للمدرسة السريالية في الشعر – خصوصاً وأن أهم روادها (بريتون، إيلوار، أراغون، وغيرهم) كرّسوا مفاهيم شعرية مغايرة وجديدة، كالدهشة والجنون والفكاهة التي تكشف تفاهة الواقع وتشكّل نقيضه بتدميرها للعلاقات العادية والسائدة، بغية تحرير المخيلة من القيود الفكرية والاجتماعية، فالخيال المنفتح على غرابة الصور والمدهش المنبثق من تغيير الواقع وتخطيه، هو من سيقود رحلة القراءة الشعرية هذه، ودونه سيكون للكلام رمزية لا مفاتيح لمدلولاتها إلا عند الشاعر، وتوريط القارئ بصياغة النص كما وصله، لا يُبنى عليه هاهنا، وإلا فإن أي تأويل للمعنى مهما اختلف وتعدّد، سيبقى قاصراً، فنظرية القارئ الشريك في الكتابة، يمكن أن تنسحب على الكتابة التفاعلية، وليس على تلك التي “تُعرم” على الورق.
الشاعر من جيل الثمانينيات – حسب أنطولوجيا الشعر السوري – هذا الجيل الرازح تحت إرث ثقيل بوقوفه على مفترق طرق مربك، بين رواد حداثة الستينيات ومنعطف جيل السبعينيات، تلك الحيرة جاءت من أزمة أخلاقية تمثّلت بوضع هذا الجيل أمام خيارين، إما تنطعه للخوض في القضايا الكبيرة التي حمل بقصد أو دونه وطأتها كجنس أدبي مستقل، أو ممارسة الشعر كفعل ذاتي بحت، يشتغل فيه الشاعر على قصيدته الخاصة وتطويرها، وذلك بإيجاد علائق مختلفة التكوين تربط قصيدته بماضيها، مع تطرقها لليومي والبسيط والهامشي، والانتصار للعنوان العريض الذي دَرج حينها “الفن لأجل الفن”.
تخلو المجموعة من عناوين لقصائدها، فالشاعر يرفض مصادرة المتلقي، على اعتبار أن العنوان “دخيل” على النص الشعري، تاركاً للقارئ حرية أن يضع العنوان الذي يجده ملائماً، ويمكن فهم هذا الخيار لشاعر من طراز خاص كـ مازن، لكن المصادرة التي يرفضها شاعرنا، وقعت أساساً عندما اختار عنواناً لمجموعته الشعرية يتباين تبايناً شاهقاً مع محتواها، خاصة وأن صاحب “أُعلق على اللوحة حائطي” عمد بقصد أو دونه إلى تغيير مفاهيمه للأشياء المتفق على مفهومها ضمنياً، وذلك وفق آلية معينة، تبدأ بتفريغه لتلك الأشياء من جوهرها البسيط الراسخ بأذهان من يتوجّه إليهم بشعره، وإعطائها مفهوماً أو بُعداً أحادياً لا يقترب بحساسيته وحرارته الحياتية من فهمه لها، كما في قوله: “طائر البوم يحمل على عاتقه عبء الأبد/ هذا الطائر الذي ينام نهاراً ليهرب من الكائنات المشبوهة كالبشر مثلاً”.
يوظف الخطيب في المجموعة الآنفة الذكر تقنية “الألعاب اللغوية” التي حدث واستخدمها العديد من الشعراء، إلا أن مزاجها لديه أقرب إلى أسلوب الشاعر سليم بركات، سواء في استخدامه لمفردات تَفرد “صاحب الجمهرات” باستخدامها مثل (عبء الأبد، الكائنات المشبوهة، مصب العدم، حوذي عدمها الأنيق)، أو في الأسلوب التعبيري الذي استخدمه بركات في تعريفه الخاص للأشياء كقوله: “الذهب: عراك في خان/ الحياة: طلقة من ذهب”، يقابلها الخطيب بقوله: الشهوة صراخ الألق/ اللون طفل/ الحب حواس أيقظها الطير/ وغيرها.
تقنياً يمزج الخطيب في معظم قصائد المجموعة من حيث الشكل، بين نوعين من الشعر: الهايكو المعروف بجمله القصيرة والخاطفة والمعنى المحدّد والواضح، وعلى بعض مفردات الشعر الحر، المفتوح على احتمالات عديدة تخضع لمزاج الشاعر الخاص، إلا أن تفصيلاً مهماً سيتبدى للقارئ عند قراءته “لست المكان المفضل ليجلس على رأسي مقعد”، وهو غياب الخيط السحري الناظم للمجموعة بقصائدها وجوها العام ككل، وهو غياب لحالة فريدة في الشعر سيكون لها أثرها الحاد على المجموعة، كونه يحقّق في حال حضر، نوعاً من التجانس الضمني بين قصائد أي مجموعة شعرية، رغم التنافر بين موضوعاتها.
بعض القصائد لدى الخطيب جاءت مفرغة من محتواها الفكري البحت، وهو أمر شائع عند العديد من الشعراء الذين تبنوا خيار إعلاء شأن اللغة والعمل على جماليات القصيدة بما تحمله من طاقة إيحائية عالية كتعويض للغياب الحاد للفكرة، إلا أن هذا الخيار يمازج حيناً ويفارق حيناً آخر، طبيعة نصوص المجموعة، خصوصاً تلك التي يغلب عليها نوع الهايكو مثل قوله: “جره الخواء باتجاه الرمل/ مخطوف لا محالة”، هنا تغلب اللغة التقريرية على اللغة الشعرية، مع تلاعب مقصود بالألفاظ لإيقاظ الموسيقى الداخلية النائسة أو المتنحية في أغلب قصائد المجموعة، كما أنه يعتمد على الصورة الشعرية كأداة مفصلية في إنجازه نصه الشعري، وهنا يجد القارئ نفسه أمام تقنيتين مختلفتين في صياغة تلك الصورة، فتارة تطالعنا الصورة الشعرية المنحوتة بنعومة ومهارة كقوله: “مسحت الحزن عن كهولة البنفسج” وتارة تطالعنا صورة مرتبكة في إيصال دلالتها الشعرية، تدمج بين الفوتوغراف والتعليق، كقوله: “الشعر طفل يركض خلف الفراشات/ يشعل أسئلة الضوء”.
نجد عند الخطيب طموحاً واضحاً للمغامرة الشعرية من خلال مزاوجته بين الحداثة في تطرفها، وموروثه الغنائي الداخلي، القادم من بيئة أعطته مفاتيح الإيقاع الداخلي لقصيدته، إلا أن هذا التنوع بما يؤثر به وجدانياً، وملاقحته مع مصادر الإيحاء الخارجي، يجب أن يقابله التنوع في أساليب التعبير، وهو ما غاب في هذه المجموعة، الأمر الذي أوقع قصيدته بفخ تكرار النموذج في تراكيبه وصيغه الشعرية، رغم ما تبديه تلك الصيغ والتعابير من عفوية في مزاجها العام، إلا أنها تُظهر في أحد جوانبها تكلفاً واضحاً، كما في قصيدته “مسدت صدر الريح/ أقعدت الحزن على طاولة السكر/ أشعلت له قمراً كاملاً/ أطعمته خبزاً وتين/ ربطت النهار بخصري واستويت”، نلاحظ تكرار الأفعال والصيغ، كما نلاحظ العفوية الصادرة عن مفردات لها وقعها الخاص كالتين والخبز، لتأتي جملة “ربطت النهار بخصري واستويت” مقحمة على المقطع، متنافرة مع ألفته وتجانسه.
تمّام علي بركات