ضباطنا البواسل يتحدثون عن 6 تشرين.. عندما أسقطنا الطائرات الإسرائيلية واستعدنا المرصد
“البعث الأسبوعية” ــ محمد محمود
يكتب التاريخ في سجلات المجد سطوراً لا تغيب لعنوان ثابت وحقيقة راسخة مفادها أن لا محتلٍ أو معتدٍ وطأ أرض سورية إلا وخرج منها مُمرغ الأنف، مُحطم الغرور، مُبددَ الأوهام، فتراب سورية المبارك لا يقبل المحتلين مهما علت شوكتهم، وتعالى غرورهم، وبلغ عدّهم وعديدهم، وتراب سورية المبارك لا يقبل بذوراً فاسدة لم يسقها الحب والعنفوان الذي جُبل السوريون ومقاتلو جيشهم عليهما فشبوا وشابوا على حقيقة كرامة ترفض المحتل، وتكسر أسطورة الجيوش التي لا تقهر.
في السادس من تشرين الأول، قبل سبعة وأربعين عاماً، كتب السوريون في سجلات المجد سطوراً مخلدة، وانتصارات عظيمة كانت الكرامة والعنفوان فيها عنواناً رغم بغي المحتل وجبروته، ورغم كل الأساطير التي حاكها ورواها عن جيشه المزعوم الذي لا يقهر، فكُسرت الشوكة وتهاوى الجبروت، وعادت ثقة المقاتل العربي بقدرته، وعاد معها جزء من الأرض المحتلة حراً شامخاً، يرفرف العلم السوري فيه، بعد ملاحم بطولية سطرها رجال العز، أبطال جيشنا الباسل، فكانوا بتضحياتهم العظيمة عنواناً مستمراً للبطولة والفداء.
واليوم، مع التاريخ العائد في حرب جديدة أوسع وأشد فتكاً وتدميراً، تستهدف الحجر والبشر والوجود السوري المقدس، لا تغيب حقيقة أيام مضت، لتبقى إرادة السوريين نفسها، وتتجدد العزيمة التي كتبها رجال الجيش العربي السوري صفحات مضيئة في قتال المحتل الصهيوني، وإن تبدلت اليوم أسماء الأبطال، وتكتب ملاحم من الانتصارات في التصدي لجحافل الإرهاب والتنظيمات التكفيرية والحرب الاقتصادية الخبيثة، لا تقل بسالة أبداً عن تلك التي نستذكرها مع كل احتفال بنصر تشرين، فمن منا ينسى اقتحام الجيش العربي السوري لهضبة الجولان حين أسندت المهام القتالية لجميع قادة القوى والتشكيلات، وأصبحت قواتنا المسلحة يداً قوية ضاربة على ايقاع واحدة وخطوة موزونة مشتركة، ولكن بصمت مطبق مع الحرص الكامل على تنفيذ تدابير خطة التمويه العملياتي.
بكلمة واحدة
دارت رحى الحرب، وأصبح من المحال وقف عجلة الزمن، أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وفي الساعة 11,00 من يوم 6 تشرين الأول 1973، وصل الفريق حافظ الأسد القائد العام للجيش والقوات المسلحة إلى مقر القيادة العملياتي، وأخذ مكانه في قاعة العمليات، وبدأ يتلقى جاهزية القوات لبدء الحرب. وفي الساعة الواحدة أبلغتْ القوى الجوية عن استعدادها التام لتنفيذ المهمة المسندة، كما أبلغ قائد سلاح مدفعية الميدان عن جاهزية سلاحه لتنفيذ رمي التمهيد. كما أبلغ قادة فرق النسق الأول عن جاهزية مجموعات الاقتحام لاقتحام خط التحصينات الإسرائيلية في هضبة الجولان بالقوة، لتبدأ معارك الجيش العقائدي الذي صان ويصون كرامة سورية، مقدماً الدماء رخيصة في سبيل حفظ الاستقلال والكرامة حتى يومنا هذا.
ذاكرة حاضرة
لا يغيب عن أحد ذلك الدور المشرف التي قام به الضباط السوريون في تلك الحرب العظيمة، وما قدموه من بطولات وتضحيات تستمر بنتائجها حتى أيامنا هذه، وربما يكون استذكار هذه الأيام على لسان ضباط عاصروها وشاركوا فيها، وسطروها بشجاعتهم وتضحياتهم وإيمانهم، خير دليل على ذاكرة هذه الحرب الحية، فيصف العميد المتقاعد عبد الكريم دغمة، أمين رابطة المحاربين القدماء في محافظة طرطوس حالياً، تلك الأيام بالأيام التي أذهلت العالم، ويقول: حرب تشرين التحريرية أتت بعد أربعة حروب مع العدو واعتداءات كثيرة، فكانت حرب استعادة الكرامة، حين هاجمنا بكثافة بواسطة الطيران والمدفعية، وعبرنا نحن والقوات المصرية التحصينات التي وضعتها إسرائيل، فاستعدنا الأراضي ووصلنا إلى بحيرة طبرية بعد أن كانت كل الحروب السابقة بيد إسرائيل، واستعدنا مرصد جبل الشيخ، وكان هناك مجموعة عوامل اعتمدنا عليها في إعلان لحظة الانطلاق، لكن تخاذل السادات حال دون تحقيق انتصارات إضافية.
ويكمل العميد دغمة: كنت في تلك الأيام ملازماً أول في الجيش وكانت مهامي بسيطة حيث كنت باختصاص تسليح، وكنا ننطلق مباشرة باتجاه أي دبابة معطلة بأرض المعركة فنقدم الدعم والذخيرة والعتاد، ونسحب الآليات المعطلة، وكانت المعنويات مرتفعة جداً بعد أن كنا نشعر بالضعف والانكسار، فطعم الانتصار جميل جداً، ومن منا ينسى تلك اللحظة التاريخية الرائعة التي غرسنا فيها العلم السوري على مرصد جبل الشيخ، ومرّغنا أنف المحتل المعتدي على أرضنا.
شاهد على النصر
إذا كان العميد دغمة قد شهد بعض التفاصيل في حرب تشرين واستعادها بعزة وبهاء، فاللواء محمد سليمان شاهد آخر على النصر، وعاش تفاصيل أخرى، لا تقل تشويقاً، رواها لنا بعد سنوات طويلة، بالروح والحماس نفسه الذي كان في تلك الأيام، فيقول: حرب تشرين التحريرية التي صنعها القائد الخالد حافظ الأسد لم تبدأ في السادس من تشرين الأول 1973، بل كانت قبل ذلك بكثير من حيث التجهيز والإعداد والتحضير، وهي ليست معركة جيش أو عسكريين، لكنها معركة شعب كامل ضد مغتصب ومحتل. ويضيف: كنت في ذلك الوقت برتبة مقدم في سلاح الصواريخ التي تم تشكيلها بجهد القائد الخالد، وكان هناك ست ألوية صواريخ.. اسم لوائي اللواء 78 في تل الحارة، وأثناء هذه الفترة قررت القيادة الانتقال للهجوم، فقمت بتجميع فوجي في منطقة القطاع الأوسط لتركيز الهجوم باتجاه صفد، وكان لوائي في الجهد الرئيسي للجيش ضمن الفرقة التاسعة، والألوية التي تقدمت لضرب تحصينات العدو، وكنت أعمل على شاشة الرادار أراقب الدبابات التي يتم تدميرها، وأرصد الطيران الذي يتحرك، وشاهدت طياراتنا في الجو تدك تحصينات العدو، وكنت أشاهدها بأم عيني في تل الحارة الذي حاول العدو احتلاله لأكثر من مرة، ولم يتمكن. في اليوم الثاني، بدأت بتجريب صواريخي التي تدربت عليها جيداً، وكنت بفارغ الصبر لتجربتها على عتاد المحتل وطائراته، وفعلاً كانت رمايات لوائي رمايات ممتازة، حيث شاهدت طائرتين في الساعة الرابعة ظهراً، فأمرت قائد الكتيبة الثانية بإطلاق الصواريخ، وتم تدمير إحدى الطائرتين، وقمنا بتسليمها للفرقة التاسعة، ولقائد الدفاع الجوي، في حين قفز قائد الطائرة الأخرى من طائرته مذعوراً قبل الإطلاق عليه، وسقطت طائرته.
الحرب خدعة
يتحدث اللواء سليمان عن بعض الأساليب القتالية التي قامت بها قواتنا المسلحة أثناء الحرب، والمناورات التي تمت لخداع العدو.. يقول: بعد ذلك شاهدت طائرة على ارتفاع عال خارج حدود منظومة الدفاع الجوي الصاروخي، وقدّرت أنها طائرة استطلاع قامت بتصوير الموقع، فقمت بتحريك موقع المرابط بحدود 1 كم، وقدّرت أن الموقع سيتم قصفه. في اليوم الثاني، 7 تشرين الأول، كانت المفاجأة، حيث شاهدت 14 طائرة على شاشة الرادار تتحرك باتجاه مواقعنا، فقمت بإعطاء الأمر، ودمرنا 5 طائرات منها دفعة واحدة، في حين تحركت الطائرات التي خرجت من المجال وقصفت الموقع السابق الذي انتقلنا منه.. كانت تقديراتي صحيحة تماماً.. المضحك أن إسرائيل أذاعت في ذلك الوقت أنها قامت بتدمير اللواء 79، بقيادة المقدم محمد سليمان – وهو خبر عار عن الصحة – وشاهدتها على شاشة الرادار في المواقع الجديدة، وتمكنا من إسقاطها أيضاً، وكانت حصيلة ذلك اليوم 14 طائرة (إما الطائرة إما الطيار)، واستمرت الحرب، وأعطى القائد الخالد الأمر بمتابعة المعركة، وسميت حرب الجولان.. إن حربنا مع المحتل لم ولن تنتهي إلا بعودة الأرض كاملة.
حرب مستمرة
يؤكد اللواء محمد سليمان أن حرب تشرين ستبقى بعد سبعة وأربعين عاماً ذكرى خالدة لأولادنا، فهي حرب أعادت الكرامة. وحرب تشرين لا تزال مستمرة حتى اليوم عبر استراتيجيات ينبغي علينا العمل بموجبها. فالعدو، وبعد الهزيمة، ما زال يصنع استراتيجيات جديدة، وهي أهم من الدبابة، وأهم من الصاروخ، فنحن في سورية أول من ينادي بالسلام، والسلام هو إعادة الحقوق بالدرجة الأولى، ونحن اليوم بحاجة للتوازن الاستراتيجي ووضع هدف ضمن إمكانياتنا. ويختم اللواء سليمان: هناك الكثير والكثير في الحديث عن حرب تشرين، لكن أكثر ما يثير الفخر والاعتزاز في نفسي هي تلك اللحظات التي كانت الناس تخرج إلينا وتقدم الطعام، فالناس كانت بالملاجئ. لكن في يوم 7 تشرن الأول، خرجت الناس للأسطح لمشاهدة الصواريخ وهي تلاحق الطائرات، وكان هناك الكثير من النكات والطرف التي رواها الناس، وأحدها – وسأرويه بلهجة مبسطة، كما يتحدث بها أهل منطقة “جاسم” – فأهالي المنطقة شاهدوا صاروخاً من صواريخ أبو ياسر (وهو لقبي آنذاك بين الناس) خرج للبحث عن طائرة للعدو، وأطال البحث عنها، ثم نزل إلى أحد أصحاب الدكاكين، وسأله: هل رأيت الطائرة؟ فدله عليها، فانطلق الصاروخ للطائرة، وأعطاها قبلة حارة، فأصبح لونها أحمر، ونزل هو والطائرة على الأرض. ومن الأمور الجميلة أيضاً قدوم راهبات من منطقة قريبة لمشاهدة الطائرات المدمرة، وهي أمور تبعث على الفخر وتبقى في الذاكرة كلحظات جميلة جداً.
دور مشرف
في المقابل، يستحضر العميد المتقاعد، نزار سليمان، ذكريات إضافية عن الحرب والقصص التي يعرفها عنها، ويتحدث عن أيام قضاها في خدمة الجيش العربي السوري، واصفاً دور الضابط السوري بالواعي والمسؤول والأساسي في كل الميادين.
لم تعف السنوات الطويلة التي قضاها العميد نزار في خدمة الجيش العربي السوري – رغم تقاعده – من نذر حياته في سبيل الجيش والوطن، فتواصل – كما كثير من زملائه المتقاعدين – منذ بداية الحرب على سورية مع قيادته العسكرية، واضعاً نفسه وخدماته تحت تصرفها مجدداً. يقول: الضباط طبقة واعية في المجتمع لأن تأهيلها أكاديمي فهي كانت من فئات المجتمع السوري التي استشعرت الخطر باكراً وأكثر من غيرها، فسارعنا للتواصل مع قياداتنا وشكلنا خطوط دفاع عن الوطن ومدنه وأريافه وبلداته المختلفة، وندافع اليوم عن الانتصارات التي صنعها جيشنا وضباطنا سابقاً بإرادة كل السوريين، ونصنعها اليوم أيضاً.
دروس وعبر
حين نحتفل بالتاريخ ونستعيده ونتذكره لا نفعل ذلك طرباً أو تغنياً، فالتاريخ كتاب حافل يقدم الدروس والعبر، ويفضي للنتائج نفسها حين تكون قصصه متشابهة.. وفي يوم السادس من تشرين 2020، ما أشد تشابه التاريخ، فقصص الملاحم والبطولة التي كتبها الضباط السوريون عبر تاريخهم المجيد يكررونها اليوم بقصص مشرفة أخرى تصون الجلاء وتبقي الاستقلال وساماً لامعاً على صدور السوريين جميعاً.