مجلة البعث الأسبوعية

هل صحيح أن الخضوع للهيمنة الأمريكية يحقق الرفاه الاجتماعي للناس؟ أحذروا تقليص دور الدولة!!

“البعث الأسبوعية” ـ علي عبود

كنا ولا نزال ضد “التشاركية” منذ طرحها للمرة الأولى من قبل حكومة (2003 ـ 2010)، التي تولى خلالها “النائب” عبد الله الدردري تنفيذ مسار تدميري عنوانه تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية!

ولم ولن يجيب مؤيدو التشاركية، التي تعدّ من أرقى وأخبث أنواع الخصخصة، على السؤال المحوري: من المستفيد من تقليص دور الدولة عبر تهميش القطاع العام في الحياة الاقتصادية والاجتماعية؟

يكفي أن نقرأ بدقة الأهداف البعيدة المدى لمطالب صندوق النقد الدولي، الذراع الاقتصادية للولايات المتحدة، من الدول التي تطلب مساعدة الغرب الاستعماري المروج للنيوبرالية المتوحشة، لنكتشف الجواب!

كل مطالب الصندوق، والإدارات الأمريكية المتعاقبة، تركز على تقليص دور الدول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأنها المدخل الوحيد لإخضاعها للهيمنة الأمريكية إلى أمد غير منظور!!

 

أحاديث المجالس الخاصة

كلنا سمع، ويسمع أحاديث من الناس المحيطين والمقربين منه من قبيل: لو أن سورية تعاونت مثل مصر مع الأمريكان، وفكّت تحالفها مع إيران، وتوقفت عن دعم المقاومة.. إلخ، لكانت تنعم الآن بالرفاه والازدهار الاجتماعي والاقتصادي!

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة تستند إلى معطيات تاريخية ورقمية هو: هل صحيح أن الخضوع للهيمنة الأمريكية وتحقيق مطالب الغرب بتقليص دور الدولة، وأحيانا تصفيتها، يحقق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للناس؟

أمامنا ثلاثة نماذج يمكن الاستشهاد بها للإجابة على السؤال الذي لا يتوقف الكثير من الناس عن طرحه في مجالسهم الخاصة؟

 

النموذج الأول: كوبا

تعرضت كوبا منذ خمسينيات القرن الماضي لخطط جهنمية لإخضاعها للهيمنة الأمريكية من خلال تقليص دور الدولة تمهيدا لتصفيتها.. فماذا كانت الحصيلة؟

وجدت الإدارة الأمريكية ضالتها في حاكم كوبا فولخانسيو باتيستا، بعد استلامه السلطة إثر انقلاب عسكري (1952 ـ 1959)، وباشر سريعا الاتصال بالأمريكان وبرجال المافيا، ونفذ مطالبهم فخصخص كل القطاعات الاقتصادية لصالح الشركات الأمريكية التابعة لرجالات الإدارة الأمريكية (الزراعة والاتصالات والنقل والصيد البحري.. إلخ).

وأتاح تجاوب باتيستا لأمريكا، لناحية تصفية دور الدولة، إخضاع كوبا كليا للهيمنة الإمبريالية الأميركية حتى انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو، في مطلع عام 1959، فكانت بداية القضاء على المخطط الإمبريالي الأمريكي الجهنمي من جهة، وبداية إعادة الدور القوي للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى.

ولم تستطع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ عام 1959، رغم الحصار والعقوبات الاقتصادية، أن تعيد هيمنتها على جارتها كوبا بفعل الدور القوي والمباشر للدولة، والذي جعل كوبا في طليعة الدول التي واجهت جائحة عالمية مثل كورونا بل وقدمت مساعدات لدول نيوليبرالية!

 

النموذج الثاني: مصر

مرّت مصر بمسار مناقض للمسار الكوبي انتهى بها إلى الخضوع التام للهيمنة الأمريكية، وإلى تقزّم دورها في المنطقة إلى حد لم تعد قادرة على الدفاع عن أمنها القومي المهدد من ليبيا وأثيوبيا وسورية والسودان، والبحر الأحمر.. إلخ.

لقد تمكنت مصر في ظل قيادة جمال عبد الناصر من لعب دور ريادي، ليس في المنطقة فقط، وإنما في العالم أيضا، استند على مشروع دولة له الدور الأكبر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقام على ثلاث دعامات: الأولى بناء بنية صناعية ضخمة، والثانية إنشاء جيش قوي، والثالثة إقامة قاعدة اجتماعية تحمي الثورة.

بالطبع، لم يعجب هذا النموذج الأمريكان فتآمروا على عبد الناصر بدعم خصومه في الداخل كالإخوان المسلمين، وفي الخارج كدول الخليج، وعندما لم تنجح محاولاتهم لإنهاء حكم عبد الناصر الداعم لدور الدولة القوية، خططت مع إسرائيل لشن عدوان على مصر وسورية، في 5 حزيران عام 1967، لكن لم تحقق أمريكا هدفها، فقد صمد عبد الناصر وخاض سريعا حرب استنزاف ضد “إسرائيل” بين العامين 1967 و1970، ولو أمهل الزمن عبد الناصر، الذي توفي في 28 أيلول 1970، لكان المشهد الغربي مختلفا جذريا منذ مطلع السبعينيات، خاصة بعد قيام الحركة التصحيحية في سورية بتاريخ 16 تشرين الثاني 1970.

 

الخضوع للهيمنة

وسواء كان بفعل تخطيط مسبق أم مصادفة بحتة، فإن خليفة عبد الناصر محمد أنور السادات كان رجل أمريكا القوي في المنطقة، حتى مقتله في 6 تشرين الأول عام 1981، وكان صاحب شعار “99 % من أوراق حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي بيد أمريكا”!

والمشكلة مع السادات لم تكن بالقناعات السياسية، وإنما بالانصياع للمطالب الأمريكية، وهي تقليص دور الدولة وصولا إلى تصفيته في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وفعلا بدأت عملية تصفية دور الدولة في مصر مع السادات الذي تحالف مع كل أعداء عبد الناصر وعلى رأسهم الأخوان، واستمرت مع مبارك ومرسي وصولا إلى السيسي (خصخصة القطاع العام، وتحرير الاقتصاد، وتقليص الدعم للسلع الرئيسية كالقمح وصولا لبيع مصنع الحديد والصلب ومشروع طرح قناة السويس للخصخصة)!

وانتهت مصر حاليا إلى الخضوع التام للهيمنة الأمريكية عبر تنفيذ كل مطالب صندوق النقد والبنك الدوليين، ولم يعد للدولة أي أذرع اقتصادية ولا اجتماعية على عكس النموذج الكوبي، وحديثا الإيراني، تمكنها من مواجهة أي هيمنة، ليس الأمريكية فقط بل والهيمنة الخليجية أيضا. وهذا الواقع جعل أمنها القومي مكشوفا وهشا غير قادرة على حمايته، سواء في سورية أو ليبيا أو وادي النيل أو البحر الأحمر!

ولا يوجد في الأفق ما يجعل مصر قادرة على استعادة دورها كما كان في عهد عبد الناصر، فقياداتها مشغولة باستجرار قروض من الغرب لتسديد فوائد، وليس أقساط، ديونها الخارجية التي تتجاوز 157 مليار دولار!!

 

النموذج الثالث: سورية حافظ الأسد

بعد قيام الحركة التصحيحية أقام القائد المؤسس حافظ الأسد دولة قوية ذراعها قطاع اقتصادي عام بنى سورية الحديثة، وجيش قوي يحمي مكتسباتها وقادر على حماية أمنها القومي، ونظام حماية اجتماعي وفر متطلبات العيش الكريم والحد الجيد من الرفاه لملايين السوريين، وبفعل الدور القوي للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية كسرت سورية في ثمانينات القرن الماضي الحصار والعقوبات الاقتصادية مثلما فعلت كوبا، وحولتها فيما بعد إلى فرصة حققت خلالها الإكتقاء الذاتي، وصفر مديونية ودور إقليمي في المنطقة!

ولولا الدور القوي للدولة لما استطاعت سورية مواجهة أكبر وأبشع حرب إرهابية شنتها أكثر من 70 دولة عليها منذ عام 2011!!

 

الخلاصة

الحل الوحيد لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية ليس بتقليص دور الدولة الاقتصادي من خلال مشاريع خصخصة مجانية بلباس عصري، كالتشاركية، ولا بتقليص الدور الإحتماعي للدولة بتقليص دعم ملايين الأسر بالسلع الأساسية، وإنما بتقوية الدور الاقتصادي للدولة بتحديث وإصلاح وتطوير القطاع العام الذراع الفولاذية للدولة، وبزيادة التدخل الاجتماعي برفع القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية.