نوبل للشعر لـ لويز إليزابيث جلوك
“تميّزت بصوتها الشاعري المميز الذي يضفي بجماله المجرد طابعاً عالمياً على الوجود الفردي”، بهذه العبارة المبهمة المعنى، وصفت لجنة تحكيم جائزة نوبل للآداب استحقاق الشاعرة الأمريكية لويز إليزابيث جلوك (1943) فوزها بالجائزة الأشهر، والتي تترافق كل عام قبل صدور نتائجها، بالكثير من التكهنات والإشاعات التي تدور حول هوية الفائز، وغالباً ما يحوم الكلام عن الرواية عندما يكون الأمر متعلقاً بــ “نوبل للآداب”، خصوصاً وأن الشعر تتراجع مكانته كأحد أهم أنواع الآداب في العالم ككل، وكان أن منحت الأكاديمية الأشهر الجائزة الأهم للشعر قبل عشر سنوات، عندما فاز بها السويدي توماس ترونسترومر 2011؛ وحدث أن اشتعلت مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي قبيل صدور الترشيحات للجائزة، بالاختلاف حول أحقية فوز الشاعر أدونيس بالجائزة، خصوصاً وأن العديد من التسريبات غير معروفة المصدر، ذهبت نحو ترشيحه لنيلها ليس منذ عدة أيام فقط، بل منذ سنوات، إلا أن من يتابع تاريخ الجائزة الأرفع في مجال الآداب، والتي بدأت عام 1901 عندما فاز بها الشاعر الفرنسي رينه سولي برودوم، سيلاحظ الغياب الحاد للأدب العربي وأعلامه الأهم عنها، عدا عن فوز الروائي المصري نجيب محفوظ عام 1988 بها، وما ترافق من ضجة صاخبة في الأوساط الثقافية والإعلامية عن السبب الحقيقي لمنحه نوبل. وبلغة الأرقام الدقيقة، فإن مجموع من فاز بها من العرب وبمختلف المجالات بغضّ النظر عن خلفية ذلك الفوز، لا يتجاوز ما نسبته 0.95% من الحاصلين على جوائز نوبل حتى تاريخه، رغم أن العرب يشكلون نحو 4% من سكان العالم، ولتذهب كل النزاعات – هذا الوصف المناسب لما جرى – التي حدثت بين مؤيد لفوز أدونيس بها ومخالف، أدراج الرياح بعد إعلان الأكاديمية هوية الفائز.
تتابع الأكاديمية تقديم مميزات جلوك أيضاً بعبارات عائمة، غير حاسمة، وأيضاً غائمة المعنى وضبابية الدلالة، منها: “في قصائدها، تستمع النفس لما تبقى من أحلامها وأوهامها، ولا يمكن أن يكون هناك من هو أشدّ منها في مواجهة أوهام الذات”، وهكذا حسمت الأكاديمية أمرها ومنحت الجائزة لشاعرة لم يَسمع بها الكثير من الذين يتابعون حركة الشعر العالمية، ويرصدون أدنى نأمة “شعرية” تصدر عن “شاعر-ة”، رغم فوزها في بلادها بعدة جوائز شعرية، لكنها لم تجعلها في مصاف العالمية الأدبية، وربما كان هذا من أحد أهم الأسباب التي اعتمدتها الأكاديمية السويدية لتحديد هوية الفائز، فالشعر عموماً لم يعد من الفنون الأدبية الموجودة في الواجهة، ويكاد يصبح شيئاً من الفلكلور، أو هكذا يتمّ التعامل معه. أماسٍ شعرية لا حضور لها، تراجع بل تدهور كبير في حركة النشر الشعرية العالمية، شعراء لا تكترث بهم الصحافة الثقافية العالمية إلا في حال وفاتهم، أو فوز أحدهم “من غامض علمه” بجائزة مهمّة. وهكذا يمكن القول إن الجائزة مُنحت هذا العام للشعر عموماً، طبعاً مع اعتبارات أخرى تراها الأكاديمية في نتاج الشاعرة، ومنها ما ذكرته أيضاً عن فوزها بالجائزة، بعد أن أشادت بسعيها نحو الوضوح والعالمية واستيحاء الأساطير الكلاسيكية، التي تسود في معظم أعمالها، وتركيزها في قصائدها على موضوعات الطفولة والحياة الأسرية، والعلاقة الوثيقة مع الوالدين والأشقاء.
بالنظر إلى مسيرة جلوك الشعرية، وقد بلغت من العمر 77 عاماً، ترى الشاعرة أن الشعر هو (السبيل الذي يجعل القصيدة تُحرِّر، عن طريق مَوْضَعة الكلمة، وحُسْن إدخالها في سياقات زمانية ومكانية، وإطلاق ذلك النطاق التامّ والمدهش الذي يتيح اصطراع معانيها)، والقارئ لقصائد الشاعرة سيلاحظ الحضور الطاغي للأسطوري والصوفيّ كعنصرين لازمين في معظم قصائدها، مع لغة بسيطة في ظاهرها، سلسة، تميل نحو القصّ الشعري والتنويع في الأساليب التي تنسج من خلالها قصائدها، فعلى سبيل المثال تقول في واحدة من قصائدها الشهيرة “الحديقة”: (تحبك الحديقة/ ومن أجلك تلطخ نفسها بالخضرة وبأحمر الورود/ لكي تدخليها على عشاقك/ أترين كيف أنشأت أشجار الصفصاف/ خيم الصمت الخضراء هذه/ لكن ما زال ثمة ما تحتاجين إليه/ جسدك لين جداً، حي جداً/ بين الحيوانات الحجرية/ اعترفي أنه من الرهيب أن تكوني مثلها/ بمنأى عن الأذى).
في المقطع السابق تظهر براعة جلوك في ابتكارها للصور المفاجئة، تلك التي تجذب القارئ للخوض أكثر في أعمالها الشعرية التي تدور مواضيعها الأشهر عن الموت، الحرية، الصمت، الحبّ، الموسيقى، الطبيعة، التي تحضر أيضاً كمكوّن أساسي في الخيال الشعري لديها، تقول في واحدة من قصائدها “سعادة”، وهي قصيدة رقيقة ذات طابع أنثوي صافٍ: (رجل وامرأة على فراش أبيض/ إنه الصباح، أفكر، عما قليل سيصحوان/ ثمة زنابق على نضد السرير/ في مزهرية تغمرها الشمس/ أراه ينقلب نحوها/ كأنه، بصمت، سيلفظ اسمها/ عميقاً في فمها/ على حافة النافذة مرة، ثم مرة أخرى، يشدو طائر/ ثم ترتعش المرأة/ جسدها يمتلئ بأنفاسه/ أفتح عيني فأجدك تتأملني/ فوق حجرتنا تنساب الشمس/ تقول: انظري إلي/ وتقرب وجهك مني كأنه مرآة/ كم أنت هادئ/ بينما العجلة المشتعلة/ تمرّ بسلاسة فوقنا).
فوز جلوك بجائزة نوبل لهذا العام يجعلها أول امرأة أميركية تفوز بالجائزة العالمية منذ أكثر من ربع قرن، أما بالنسبة لشعرائنا العرب الطامحين للجائزة، فالانتظار والأمل، وربما الدعاء، فالشعر عموماً لا يحضر إلا كل عقد أو أكثر على مائدة نوبل السخية.
تمّام علي بركات