“الظاهرة الترامبية” تقود العالم للهاوية
إبراهيم أحمد:
عرف التاريخ الأمريكي رؤوساء وإدارات حاكمة أثّرت في بنية النظام الأمريكي ومؤسساته واستراتيجياته بشكل كبير، وذلك بناء على توجهات كامنة في النظام الأمريكي، ووفق معيار المصالح الأمريكية التي تُمثلّها بالواقع الفعلي مصالح الشركات الأمريكية بمختلف أنواعها، فمثلا رونالد ريغان مع مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، اللذان يعدان من أكثر الزعماء المؤثرين في السياسة الأمريكية والبريطانية، وبالتالي في السياسة العالمية خلال العقود الخمسة الماضية، التقطا محفّزات التغيير الكامنة ضمن المنظومة الغربية الرأسمالية، أو بعبارة أصح جسّدا رغبة هذا النظام بالتغيير، فسارا باستراتيجية الانتقال من النظام الرأسمالي الليبرالي الاجتماعي إلى النظام النيوليبرالي الذي غّير وجه العالم منذ التسعينيات.
والظاهرة الترامبية هي ظاهرة جديدة تقرع أجراس الإنذار حول تغييرات خطيرة تتهدد العالم، بدأت قبل ترامب، لكنها اكتسبت معه زخماً مخيفاً بدأت بقلب العالم رأساً على عقب، فهي ارتداد أمريكي إلى عدة منهجيات وسياسات قديمة، ففيها ارتداد لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وسياسة الانعزالية، كذلك فيها ارتداد إلى أساليب الحرب الباردة، من مضاربات اقتصادية وسياسات إعلامية تحريضية حول أعداء خارجيين وداخليين، كذلك إلى منهجية التعصب القومي وترسيخ شعارات حول “أمريكا العظيمة مرة ثانية”، كذلك ارتداد اليمين الأوروبي المتشدد والمتطرف إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهي ظاهرة السياسيين أصحاب النزعة الشعبوية غير الدبلوماسية، الذين استفادوا من ممارسة السياسات اليمينية التي نمت بسرعة بفضل عودة المشاعر القومية، وهي ظاهرة ليست محصورة بالرئيس الأميركي وحده، على الرغم من أنه بصفته زعيماً للغرب، يُعتبر من الملهمين لكثير من القيادات التقليدية المحافظة واليمين، الذي يأخذ جرعات دعم في مواقفه من الولايات المتحدة، وهي مواقف مثيرة للجدل.
وكان ترامب، الذي وصل إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة عبر شعار “أميركا أولاً”، يُشجّع البلدان التي تسير بالفعل على هذا الطريق (المصلحة الوطنية أولاً) على مواصلة السير فيها وحثّ الآخرين على اعتمادها، وأصبح هذا الرجل نموذجاً لرؤساء دول بالجملة من مختلف بقاع الأرض، يُقلّدونه باندفاعاته المجنونة، وتراجعاته المذعورة، إنما على قياساتهم وأحجام دولهم، وهذا ما يتصل مباشرة بعدم الإلمام بالثقافة السياسية، فعلى سبيل المثال، تضم الترامبية العديد من قادة دول العالم، من مثل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وغيرهم ممن يتشابهون مع ترامب في المواصفات القيادية، والعبارات النابية، والخطابات القومية الشعبوية… أما من ناحية السياسات، فيتشابه هؤلاء في رفضهم سياسات الهجرة واعتبارها مصدراً لخراب الاقتصاد وتدميراً للهوية الوطنية، كما رفض السياسات العالمية ذات الطابع التعاوني التعددي، وتفضيل الاتفاقيات الثنائية، طمعاً في تحقيق أكثر المكاسب، ففي التعاطي مع جائحة كورونا، تعامل الرئيس البرازيلي مع هذه الجائحة باستخفاف – كما فعل ترامب – وشجَّع الناس على الخروج لمزاولة العمل ومنع انهيار الاقتصاد، لكن الأمر أُسقط من يده بعدما حسمت المحكمة العليا الأمر، واعتبرت أن القرار يتخذه حكام الولايات والبلديات، فما كان منه إلا أن دعا أنصاره للنزول إلى الشارع للاحتجاج على أوامر الإغلاق، وفي ردٍ على سؤال بشأن تخطي حصيلة الوفيات نتيجة الوباء عتبة الخمسة آلاف، أجاب بولسونارو باستخفاف: “وإن يكن”!، ما أثار موجة من الاستياء والسخط في البرازيل. أما جونسون، فقد دعا إلى عدم الإغلاق في بداية الأزمة، طالباً من البريطانيين تقبّل فكرة وداع أحبائهم، قبل أن يضرب الوباء بريطانيا بشدّة، ويضطر معها إلى إعلان الإغلاق، وإصابة جونسون نفسه بفيروس كورونا ودخوله المستشفى. وهكذا، نجد أن الترامبية لم تعرف كيف تتعامل مع الوباء، وأظهرت أنها تفضّل الاقتصاد على صحّة الناس، وأن الخطابات الشعبوية لم تستطع أن تقدم حلولاً للناس في ظل أزمات وبائية خطيرة.
وعلى الرغم من أن الديمقراطيين في أميركا واليسار الليبرالي في العالم، سيركّزون في معركتهم مع اليمين على فشل السياسات اليمينية في التعامل مع الوباء، وعلى الركود الاقتصادي الذي سيصطحبه، لكن سقوط الترامبية، أو التيار اليميني صاحب النزعة القومية، يبدو مرتبطاً إلى حد بعيد بقدرة ترامب على الصمود والنجاح في الانتخابات القادمة في تشرين الثاني المقبل 2020، فإذا ما تمكن ترامب من الفوز فيها، فستكون الأزمات الاقتصادية الناتجة من كورونا قد أثبتت أنها غير قادرة على كسر السياسات القومية الشعبوية. أما إذا فشل، فسيؤدي سقوطه إلى إضعاف اليمين في الغرب، وبالتالي إعطاء فرصة لليبراليين للاستفراد بكل زعيم على حدة، وسيكون من المتوقع سقوط بولسونارو في الانتخابات القادمة.
خارجياً، تتجلى الظاهرة الترامبية بطريقة التعامل مع دول العالم وكأنها فروع صغيرة لشركات ترامب الاقتصادية، يرسل إليها التعليمات، وما عليها إلا التنفيذ، لا يُميّز بين أصدقاء بلاده ومنافسيه، ضارباً بعرض الحائط ثلاثة قرون من تطوّر الأصول والأعراف الدبلوماسية، متسبباً بفضائح لبلدان خليجية يأمرها بالدفع لبلاده مقابل حمايتها. ويبتزها عند كل عقبة أو حادث طارئ حتى أصبحت سخرية العالم، فتكتم غضبها لأنه لا بديل عندها عن الأميركي في أنظمة حمايتها التاريخية. كما عمّم أسلوب العقوبات الاقتصادية على أصدقاء بلاده الأوروبيين والأميركيين فاتسعت شبكة مقلّديه بين رؤساء العالم، وتجاه هذه الظاهرة، ينبثق صراع حاد بين الظاهرة الترامبية ومقلّديها والمذعورين منها في أوروبا وبين فريق صيني روسي إيراني يبذل جهوداً للتخفيف من الظاهرة الترامبية، التي قد تؤدي بومضة عين إلى حرب كبيرة تتحوّل إلى حرب نووية تطال الأرض بكاملها، وربما خارج حسابات ترامب نفسه الذي لا يريد إلا فرض الانصياع الاقتصادي والسياسي بأساليب الترهيب والتخويف.
ولا بد من الإشارة إلى أن “الظاهرة الترامبية” لا تقتصر على الابتزاز المالي، بل تذهب نحو تدمير الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية وأولها معاهدة وستفاليا -القرن السابع عشر في عام 1608 التي ابتكرت الحدود السياسية لتأكيد سيادة الدول على أراضيها، والقانون الدولي المنظم للعلاقات السياسية بينها 1945. لأن ما يقوم به ترامب لم يسبقه إليه أحد إلا بحروب كبيرة كانت تؤدي إلى تغيير في سيادة الدول، فهو بكل بساطة يهدي فلسطين المحتلة والقدس ومنطقة الجولان العربي السوري المحتل للكيان الإسرائيلي المحتل، وهذا تجاوز للقانون الدولي ومعاهدة وستفاليا، كذلك ما يقوم به أردوغان الطامح لبعث أمجاد السلاطين العثمانيين من تجاوزات وانتهاكات لسيادة الدول في المنطقة وشرق المتوسط. كما قام ترامب بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وهي المنظمة التي جاهدت الولايات المتحدة الأمريكية لتأسيسها وفرضها على دول العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، كي تكون أداة تحكّمها الأساسية في السوق العالمي، ولم تكتفِ إدارة ترامب بالتلاعب بالاتفاقيات الدولية التجارية والاستثمارية، بل إن ترامب قد أعلن من طرف واحد، زيادة على التعريفات الجمركية للمستوردات الأمريكية من الخارج، والتي تزيد احتمالات دخول العالم في حرب تجارية خطيرة جداً، قد تؤدي لكوارث اقتصادية، ستعاني منها الولايات المتحدة أكثر من غيرها، لأنها تملك الحصة الأكبر من التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية في دول العالم. وانسحب ترامب أيضاً من اتفاقية باريس المناخية في منتصف العام 2017، وهي الاتفاقية الأهم في التاريخ الحديث لمواجهة التغيير المناخي الناتج عن الأنشطة البشرية الضارة بالبيئة، كما أن إدارة ترامب عزّزت هذه السياسة من خلال إلغاء عدد من القوانين الأمريكية التي تضع شروطاً ورقابة لحماية البيئة الطبيعية داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
من ناحية ثانية فإن تقلبات مواقف ترامب السياسية تهّدد بفوضى في العلاقات السياسية، فمثلاً لم يهتم ترامب بحساسية وأولوية إتقان اللعب مع الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فكانت مواقفه متقلبة وتتناقض بين يوم ويوم، حتى رئيس كوريا الديمقراطية يعلم أن ترامب لا يمكن الثقة به. إذ إن سياسة ترامب تضرب الاستراتيجيات الأمريكية الكبرى التي تم اعتمادها منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي، والتي تسعى لضمان بقاء الولايات المتحدة الأمريكية هي الأقوى والأكثر تحكماً في العالم خلال القرن الواحد والعشرين، وبنفس الوقت تهدم المصداقية الأمريكية دولياً.
وفي السياسة الداخلية، بعد وصول ترامب للبيت الأبيض نقض كل وعوده للفقراء الأمريكيين، وعاد لسياسة الحزب الجمهوري التاريخية التي تهتم بتحسين ظروف الطبقات الغنية في المجتمع، فأهم قراراته الداخلية كانت السياسة الضريبية الجديدة، والتي تُعد أكبر تغيير حصل في سياسة الضرائب. هذا التغيير خدم الطبقات الأكثر غنى في الولايات المتحدة الأمريكية على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ما حدا بالأمم المتحدة لأن تطلق تحذيراً قوياً في نهاية العام 2017، على لسان فيليب ألستون الذي قال بأنه يوجد واحد من كل ثمانية أمريكيين يعيش في حالة فقر، وحذر أن الأمم المتحدة تتوقع زيادة هذه النسبة مع السياسة الجديدة للجمهوريين. وهجوم ترامب على نظام الضمان الاجتماعي والصحي يعتبر تغييراً جذرياً في بنية النظام الأمريكي الداخلي، ما سيكون له تداعيات خطيرة في المستقبل إن استمر بهذه الوتيرة.
ومن هنا تبرز أهمية بروز تحالف دولي يقف في وجه الظاهرة الترامبية للعمل على إنقاذ معاهدة وستفاليا، ومفاعيل القانون الدولي الذي يفرض على البيت الأبيض التراجع عن مخططاته للسيطرة على الاقتصاد العالمي والهيمنة الدولية، وهذا أمر لم يعد بعيداً وسط مؤشرات بدأت توحي بتراجعات أميركية، وبروز عالم متعدّد الأقطاب، يحصر الحروب والصراعات في أدنى مستوياتها، معيداً لأساليب التفاوض والقانون هيبتهما التاريخية، وهكذا تنعكس الظاهرة الترامبية داخل البيت الأميركي وفي منظومة العلاقات الدولية على مسارات السياسة الخارجية لواشنطن، وتقلل من فعاليتها وتأثيرها تبعاً لشخصنتها وربطها بإعادة انتخاب ترامب في 2020.