الإيمان والعقلانية في أعمال دوستويفسكي
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: علاء العطار
تمثل خطوط المعركة في الحرب المفترضة بين العقلانية والتقاليد وبين العلم والإيمان، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بوابةً مناسبة للدخول إلى حياة وأعمال فيودور دوستويفسكي. نظر الروائي الروسي إلى العالم من منظور كوني، حيث تؤدي اللاعقلانية الفلسفية دوراً حيوياً في معظم رواياته. ومثلما تفعل المواجهة الإيديولوجية المستمرة بين العقلانية والإيمان، لا يمكن للعقل في نظر دوستويفسكي أن يفسر الوجود البشري بأكمله، ففي رسالة إلى أخيه ميخائيل، عام 1838، ادعى دوستويفسكي أن “معرفة الطبيعة والروح والله والحب لا يمكن أن تتأتى إلا بالقلب، لا بالعقل، فالعقل ملَكَة مادية”.
نشر دوستويفسكي روايته الأولى، “الفقراء”، في عام 1846، وكان التوتر القائم بين الروحاني والمادي في كتاباته لا يزال في تغير مستمر في هذه المرحلة المبكرة من حياته المهنية، إذ كان لا يزال يقتطف الأفكار من أدباء سان بطرسبرغ، أصدقاءً وأعداء، وخاصة دائرة بيتراشيفسكي التي كانت آنذاك تجمعاً صغيراً من الكتاب والنقاد المتحمسين الذين يلتقون أسبوعياً لمناقشة الأدب والفلسفة والسياسة.
يقول الأديب الأمريكي الراحل جوزيف فرانك: إن الأدب الروسي المبكر كان لاهوتياً في غالبه، تتحكم فيه المُثُل الدينية المستمدة من المسيحية البيزنطية. تغير ذلك في أواخر القرن السابع عشر، مع اعتلاء بطرس الأكبر العرش، فقد شرع القيصر بتحديث الإمبراطورية الروسية، واعتقد أن على طبقة النبلاء المتعلمة إعادة تثقيف نفسها وفقاً للمعايير الغربية؛ وهكذا حدث الانقسام في المجتمع الروسي بين الطبقة الحاكمة العلمانية والفلاحين الأميين الذين يخشون الله.
تسبب ذلك في انشقاق بين المثقفين الروس أيضاً، إذ بات الماديون العقلانيون يُعرفون باسم “الغربيين”، فكانوا يتحدثون الفرنسية بالدرجة الأولى، واحتقروا لغتهم وتقاليدهم، وتعبّدوا على مذبح الثقافة الأوروبية. وسعى مناصرو السلافية إلى ربط مستقبل روسيا بقيمها التاريخية الأولى، وهي إيمانها بالمسيحية، إذ اعتقدوا أن أوروبا ستنهار مثلما انهارت روما، ولاحظوا أوجه التشابه الصارخة بينهما: التضحية بالوحدة الروحية في سبيل الانحطاط المتمركز حول الذات، والاعتلال الأخلاقي، والشهوانية المنحرفة. بدأ دوستويفسكي حياته المهنية كغربي شكوكي، لكنه أصبح في النهاية مناصراً ملتزماً بالسلافية.
ترسخت هذه الهوية الروحية والثقافية عند دوستويفسكي في لحظةِ تحولٍ حدث فجأة في عام 1849، ثم ألقي القبض عليه إلى جانب من تبقى في دائرة بتراشيفسكي، وكان ذلك جزءاً من خطة أكبر وضعها نيقولا الأول لقمع الحرية الفكرية في المجتمع الروسي، لأنه كان يخشى أن تُهدد النظام الاجتماعي.
أمضى دوستويفسكي نحو عقد من الزمان بعيداً عن الحياة العامة في روسيا، وتطلب منه الجزء الأخير من عقوبته أن يخدم كجندي في الجيش الروسي. قضى أربع سنوات في سجن سيبيريا مع الفلاحين المدانين، لكن الجرح النفسي الدائم لحق به في بداية عقوبته. دعا القانون الروسي، في ذلك الوقت، إلى تنفيذ حكم إعدام وهمي في الحالات التي عُفي فيها من حكم الإعدام. وهكذا جرى إعداد الإجراءات اللازمة لذلك في قلعة بطرس وبولص في سانت بطرسبرغ حيث سُجن دوستويفسكي. كان السجناء معصوبي الأعين، ووقفت أمامهم فرقة الإعدام، واصطفت إلى جانبهم عربات نقل التوابيت، ووصل كاهن ليسمع اعترافاتهم الأخيرة.
أعاد دوستويفسكي إنشاء المشهد في عام 1868، في روايته “الأبله”. يتذكر بطل الرواية سماعه قصة من رجل يظنّ أن بضع دقائق تفصل بينه وبين حتفه. يوضح الأمير ميشكين [بطل الرواية] المشهد: “كانت شكوكه وإعراضه أمام المجهول مريعة”. لكن الأدلة ما زالت موجودة في السيرة الذاتية التي كتبها نيقولاي سبيشنيف الذي كان، أيضاً، جزءاً من دائرة بتراشيفسكي، إذ استذكر فيها اللحظة التي بدأ فيها الرجلان [هو، ودوستويفسكي] يفكران في احتمال الموت الفوري، عندها التفت إليه دوستويفسكي وقال: “سنكون مع المسيح”.
أصبحت الرمزية المسيحية في روايات ما بعد سيبيريا حاضرة في كل أعمال دوستويفسكي، حيث كان يتكرر ظهور موضوع واحد باستمرار، وهو الصراع المستمر بين الخير والشر، إذ نشهد في روايته “الجريمة والعقاب” (1866) عالماً تُدمر فيه الثقة بالعقل وحده كلَّ الروابط العاطفية بين البشر. وفي روايته “الشياطين” (1872)، يعلن شاتوف بصراحة أن “العقل [لا يمتلك] مطلقاً القدرة على تعريف الخير والشر”، وفي رواية “الأخوة كارامازوف” (1880)، يُقدَّم الإيمان بمصطلحات أساسية تعبر عنها العبارة: “لا شيء أهم من التفاني المطلق في التزام تعاليم السيد المسيح”.
في كتاب “دوستويفسكي.. مؤلف عصره”، يلاحظ جوزيف فرانك كيف أن “الحياة في نظر دوستويفسكي كانت – كما نظر إليها كيتس – وادياً تُصنع فيه الروح، وجاء إليه المسيح ليدعو البشر لمحاربة موت الانغماس في المادة، ولإلهامهم للنضال من أجل تحقيق نصر نهائي على الأنانية”.
اعتنقت معظم روايات القرن التاسع عشر العقلانيةَ بشدة، وكانت تتماشى بشكل جيد مع القيم المنظمة للمجتمع البرجوازي، خاصة تعلقه ضيقُ الأفقِ بالثروة والمكانة الاجتماعية والنجاح المادي. لكن أعمال دوستويفسكي كانت مناقضة لذلك، فهي أقرب إلى المأساة الشعرية: عالم تلتقي فيه العلاقات الاجتماعية والميتافيزيقا الدينية مع الأحلام والرؤى غير المقيدة بالمكان أو الزمان أو المادة. وغالباً ما زعم أشد نقاد دوستويفسكي أن قسوة رواياته لا تعكس حقيقة العصر الذي كان يكتب فيه. وأشاروا أيضاً إلى أن سَجن شخصياته الباثولوجية في مصحة عقلية سيكون أفضل من تلويث صفحات المجلات الأدبية الروسية المرموقة.
لكن يبدو أن هؤلاء النقاد أخطؤوا في قراءة النقطة المركزية في إبداع دوستويفسكي، وهي أن “الحقيقة نفسها مفهوم مشكوك فيه”. ويبدو أن هذا يفسر سبب عمل شخصيات دوستويفسكي باستمرار ضمن إطار أُخرويّ، وإذا كان القلق والشعور بالذنب والشك هي المشاعر السائدة، فلا شيء يدعو إلى الاستغراب، فهم يقضون معظم أوقاتهم في التفكير في الجحيم أو الجنة في عالم ما بعد القبر. يمنح هذا الإطار الأخلاقي والأسطوري قرّاء دوستويفسكي الأدوات اللازمة للتفكير في موضوع آخر من موضوعاته المركزية، وهو التعالي الأخلاقي، وهذا الإطار الأخلاقي يتصل بالكتاب المقدس اتصالاً وثيقاً.
شعر دوستويفسكي أن أي فرد يمكنه تحقيق ذلك إن امتلك قوة الإرادة. وبمجرد أن يُسيطر الفرد على الأنا، سيتحرر من سلاسل الغرور النرجسية. وفي النهاية، يمكن للفرد أن يتجاوز دوافعه وشهواته الأنانية.. عندها فقط، بحسب اعتقاد دوستويفسكي، تصبح الحرية الحقيقية ممكنة. تظهر كلمتان رئيسيتان مهمتان هنا: التقبل والإيمان. أن نتقبل أننا لا نملك مطلقاً سيطرة كاملة على الحياة الفردية والجماعية التي نعيشها، والتي هي في الحقيقة مجرد مجموعة عشوائية من الأحداث ليس لها مسار أو نمط محدد مسبقاً. والإيمان بفكرة أننا نعيش في عالم سيكون موجوداً دائماً خارج نطاق الفهم البشري.