Uncategorized

جولة كاراباخ الأخيرة.. أطماع النظام التركي تؤجج سعير الحرب

سنان حسن

لم يكن مفاجئاً أن نسمع خبر اندلاع قتال في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، فالجرح دام منذ أكثر من قرن، ولم يتوصل الطرفان الجاران فيه إلى حل على الرغم من الجهود الدولية التي بذلت في سبيل ذلك، ولكن المفاجئ هو دخول النظام التركي بكل صفاقة على خط الأزمة وتنصيب نفسه طرفاً في الصراع واستخدامه في سياق أجنداته العثمانية الطورانية للوصول إلى مراميه وأوهامه السياسية التي ساهمت سابقاً بنشر الإرهاب في سورية وليبيا، واليوم في منطقة خطيرة وعالية الحساسية في شرق أوروبا وملتقى غرب آسيا. وعلى الرغم من التوصل إلى هدنة إنسانية بوساطة روسية ودعم فرنسي إلا أن النظام التركي ما زال ينفخ النار يريد إشعال الحريق وعودة القتال من جديد، فما سر هذه الاندفاعة المتهورة؟ ولماذا الآن؟ وعلى ماذا يراهن متزعم عصابة العدالة والتنمية الإخوانية في دخول هذا الصراع؟

في السابع والعشرين من أيلول الفائت، اندلعت مواجهة جديدة في كاراباخ هي الأدمى منذ فترة طويلة، ولكن الملفت في كل الأخبار المتداولة، والقادمة من كل الدول المتداخلة في هذه الحرب، بداية من أرمينيا التي تم الاعتداء عليها، مروراً بروسيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي وأمريكا، كلها تؤكد أن النظام التركي ومخابراته وشركاته الأمنية قامت بنقل آلاف المرتزقة من شمال سورية وليبيا إلى جبهات الصراع حيث قدرت تقارير صحفية أن طائرات النقل التركية نقلت ما يقارب 4700 مرتزق إلى جورجيا، ومنها إلى الجبهات المشتعلة، حيث يتم دفع ما يقارب 5000 دولار لكل مرتزق للقتال هناك.

ورغم وجود ثأر تاريخي بين تركيا وأرمينيا على خلفية المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن والسريان في بداية القرن الماضي، إلا أن الاندفاعة التركية تحمل في طياتها الكثير من الأهداف والمرامي: بداية، تخفيف الضغط عنها ولاسيما من الاتحاد الأوروبي والناتو على خلفية التدخل السافر للنظام التركي في شرق المتوسط ومحاولته رسم حدود جديدة بالاستفادة من مجموعات إخوانية إرهابية مستولية على السلطة في ليبيا للاستيلاء على نفط المتوسط وغازه وحرمان اليونان وقبرص من أي فائدة اقتصادية من الحقول البحرية المكتشفة، فما يجري على الحدود الأرمينية الأذربيجانية هو أخطر بكثير من الخلاف الاقتصادي في المتوسط لما له من تأثير على استقرار أوروبا، وأمن حدودها، وبالتالي فإن بروكسل وغيرها من العواصم الأوروبية الفاعلة ستضع كل ثقلها لوقف القتال في كاراباخ وعودة الهدوء إلى الجبهات.

والأمر الثاني الذي يسعى النظام التركي للاستفادة منه في تفجير الصراع هو الضغط على روسيا في محيطها الحيوي والضغط عليها لتقديم تنازلات في الكثير من الملفات المتداخلة معها فيها، من سورية إلى ليبيا واليونان، فموسكو تعتبر أرمينيا عمقاً استراتيجياً لها، وأي تهديد ليريفان هو تهديد لها، ولأمنها القومي، حيث تحتفظ روسيا في أرمينيا بقاعدة عسكرية مهمة. وعلى الرغم من وجود علاقة قوية روسية مع طرفي الحرب، إلا أن موسكو دائماً ما تميل إلى صف أرمينيا، أو تحاول أن تلعب دور الوسيط القريب من الطرفين لتخفيف حدة المواجهة (اتفاق الهدنة الأخير الذي تم التوصل إليه بواسطة من موسكو مباشرة مثال)، وبالتالي يدرك النظام التركي أن أي تغيير في الستاتيكو القائم على حدود البلدين المتنازعين لصالح باكو سيكون له رد فعل سلبي جداً على موسكو التي ستتحرك وبسرعة لوضع حد للحرب القائمة. ووفق اعتقاد أردوغان، فإن التدخل الروسي المباشر ستكون له أثمان في هذا الملف، أو غيره من الملفات الأخرى، وبالتالي يكون قد ربح من وراء هذا التأجيج، وهو لذلك صعد من حربه الكلامية ضد روسيا ومجموعة مينسك التي ترعى الحل السياسي بين الأذريين والأرمينيين باتهامهم بالوقوف إلى جانب يريفان على حساب باكو، في محاولة لتبرير موقفه من الدعم العسكري الذي يقدمه لأذربيجان. ولكن يبقى السؤال: ماذا عن باقي الأطراف المتداخلة في الصراع ولاسيما موسكو؟ هل ستبقى تتفرج على الاعتداء في محيطها الحيوي، ولاسيما وأن هناك جبهات مشتعلة أخرى في أوكرانيا وبيلاروسيا؟ وما هو موقف فرنسا وأوروبا وأمريكا؟

لا شك أن روسيا تدرك أن تأجيج الصراع في كاراباخ من قبل النظام التركي الذي هو، في النهاية، عضو في حلف الناتو الذي لا ينفك يردد أن روسيا عدوه الأول، وبالتالي فإن موسكو تدرك جيداً أن تحرك أردوغان ما كان ليحصل لولا الضوء الأخضر الأمريكي الضمني الذي، ومنذ وصول أوباما، غير من استراتيجيته التدخل العسكري، وبات يعتمد على الأدوات بدل التدخل المباشر، وهو ما أعطاه هامش مناورة أكبر، ومكنه من تحقيق الكثير من المكاسب في العديد من الجبهات المشتعلة، دون نزول أي جندي أمريكي على الأرض، وما يجري في كارباخ لن يكون استثناء عن باقي الجبهات – هذا من جهة – وتدرك موسكو أيضاً أن انفجار كاراباخ يأتي متزامناً مع انفجار خطير في عمقها الحيوي أيضاً – في بيلاروسيا – وتضاف له قضية نافالني وأوكرانيا، وأخيراً قرغيزستان التي سيطرت فيها المعارضة على الحكم، وأزالت رئيساً قريباً منها. أي أن الهجوم مستمر على روسيا، ويفرض عليها تحديات كبرى وتحكم أكبر في مجريات الأوضاع المشتعلة حولها، لذا فقد رأينا موقف موسكو الهادئ وسعيها لتقريب وجهات النظر بين الطرفين ومحاولة جمعهما على طاولة واحدة؟

أما فرنسا التي كانت على شفا مواجهة مع تركيا بعد حادثة التحرش في المتوسط، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجد في قضية كاراباخ فرصة لمواجهة جديدة من أردوغان، لكنها تبقى مواجهة محدودة في ظل موقف أوروبي منقسم تجاه العلاقة مع تركيا، بين من هو داع للحوار والتفاهم ومن يريد فرض العقوبات عليها، أي أن تدخلها، على أهميته، لن يكون ذا جدوى في ظل الرغبة الأمريكية الخفية بالتصعيد.

أخيراً.. تؤكد الأزمة المتفجرة في كاراباخ من جديد أن القوى الدولية ترى فيها فرصة لتحقيق المكاسب والنقاط على حساب حياة أرواح الملايين من الأبرياء الذين يقطنون تلك المناطق، وإلا لما رأينا حتى الآن موقفاً دولياً هشاً ما زال يطلب على حياء وقف الأعمال القتالية، في حين نرى موقفاً متعطشاً للدماء، متمثلاً بنظام أردوغان، يدعو يومياً إلى القتال والحرب، فهل تشهد الأيام القليلة القادمة تحركاً فعالاً يوقف الحرب المندلعة، أم سيستمر سعير الحرب بحصد أرواح المزيد من الأبرياء على جانبي الحدود؟