مجلة البعث الأسبوعية

ثورة شعبية تلوح في أفق تركيا

البعث الأسبوعية” ــ فايز طربوش

خلال السنوات العشر الماضية، أضحت إنجازات النظام التركي الاقتصادية، التي طالما تشدّق بها، هباءً منثوراً، فقد سجّلت الموازنة التركية عجزاً تاريخياً، إذ كان 24 مليار دولار عام 2015، ووصل اليوم إلى 239 مليار دولار، حسبما أعلن وزير مالية النظام بيرات البيرق صهر أردوغان؛ كما تفاقمت معدّلات البطالة ووصلت إلى نحو 14 بالمئة، وهي مرشّحة للزيادة مع استمرار إفلاس المئات من الشركات يومياً إثر قيام حكومة أردوغان ببيع ما قيمته 70 مليار دولار من مؤسسات القطاع العام، وانتشر الفقر على نحو لا مثيل له، وسط انهيار الليرة إلى أدنى مستوى وتدني قيمتها الشرائية بالأسواق العالمية مقابل الدولار واليورو، ما عمّق معاناة الأتراك. والسؤال: إلى أين يقود أردوغان تركيا بسياساته، التي توصف من قبل معارضيه ومنتقديه بالمتهوّرة والعدوانية تجاه الداخل والخارج، وهل تشهد تركيا ثورة شعبية أو انتفاضة تطيح بأردوغان ونظامه المتهالك، الذي ينخره الفساد، ويحترف سياسة تحويل الأصدقاء إلى أعداء، ويواصل استنزاف ميزانية تركيا للإنفاق على مغامراته العسكرية، التي ساهمت في تدهور علاقات تركيا مع جميع دول العالم، وأدخلتها في نفق مظلم لا مخرج منه إلا بالخلاص من أردوغان نفسه؟!

يؤكّد محللون أن أردوغان- والذي لم يعد لديه صديق داخل تركيا أو خارجها- اعتمد سياسات استفزازية ومتهوّرة لتحقيق أوهام “السلطنة العثمانية”، ويضيفون: “إن تركيا أصبحت معزولة عن جيرانها، حيث ضغطت من أجل السيطرة على ثروات البحر الأبيض المتوسط، وتنصّلت من القانون الدولي بصفقاتها مع السراج في ليبيا، وتعاملت مع جهات لا شرعية من خارج مؤسسات الدول”، وأردفوا إن “هذه الممارسات اللاعقلانية والمتهورة تركت تركيا مع عدد أقل من الشركاء الاستراتيجيين وعدد متزايد من الخصوم الجيوسياسيين”.

 

صفر أصدقاء

أردوغان، الذي حوّل تركيا إلى إقطاعة عائلية عبر توزيع المنافع والامتيازات على أفراد أسرته والمقرّبين منه، ورّط بلاده في عدد من الأزمات الخارجية، فدفع بالجيش التركي، بعد أن اعتقل العشرات من قياداته السابقة وعيّن مكانها تابعين له، إلى خارج الحدود في أكثر من جبهة: سورية والعراق وليبيا وناغورني كراباخ، وصعّد التوترات في شرق المتوسط، وخاصة مع من يفترض أنهم حلفاؤه في الناتو: قبرص واليونان وخلفهما فرنسا، ناهيك عن استعدائه الولايات المتّحدة من خلال اختبار منظومة صواريخ إس-400 الروسية، والتي تقول واشنطن إنّها تشكّل خطراً على منظومة أسلحة الناتو.

وقف أردوغان، المصاب بجنون العظمة، إلى جانب أذربيجان في النزاع الذي اندلع مؤخراً مع أرمينيا بشأن ناغورني كراباخ، وقام بتجنيد وإرسال المرتزقة والإرهابيين من الأراضي السورية، التي يحتلها، إلى أذربيجان، وذلك ضمن أوهامه الشخصية لإحياء الامبراطورية العثمانية البائدة. وزعم أردوغان، مراراً وتكراراً، “إن الطريق الوحيد إلى السلام هو انسحاب أرمينيا بالكامل من ناغورني كراباخ وغيرها من الأراضي المتنازع عليها” ما يشير إلى أنه يقف وراء تأجيج النزاع واستمراره، ويثبت ما قاله فاغارشاك هاروتيونيان، مستشار رئيس وزراء أرمينيا، من “أن هذه الحرب خُطط لها في تركيا، فهي تسعى وراء مصالح تركية في تحقيق أفكار العثمانية الجديدة”.

وبعد تدخله في سورية، ودعمه الإرهاب العابر للقارات فيها، وتحويله تركيا إلى ممر ومقرّ لإرهابيي “داعش” و”جبهة النصرة”، وغيرها من التنظيمات التكفيرية، وسرقة النفط والقمح والمعامل السورية، تدخل النظام التركي في الصراع الليبي للسيطرة على موارد الطاقة الكبيرة هناك، ووقّع اتفاقية بحرية مع “حكومة الوفاق” الإخوانية في محاولة لتقوية موقفه في المفاوضات مع اليونان.

 

موجة غضب داخلي

داخلياً، وتزامناً مع انتشار فيروس كورونا وتداعياته، تواجه تركيا أسوأ أزمة اقتصادية، إذ تراجعت إيراداتها في قطاع حيوية كالصناعات التحويلية والنسيج وغيرها، إضافة لقطاع السياحة، فيما يشهد حزب أردوغان “العدالة والتنمية” تآكلاً في شعبيته في ظل استمرار نزيف الاستقالات، التي تستفيد منها أحزاب المعارضة الجديدة، كما ترتفع موجة الغضب داخل المجتمع التركي، الذي سيحمّل مسؤولية السياسات الفاشلة إلى النظام.

وفي أحدث المؤشرات الصادرة عن البنك المركزي التركي، بلغت ديون تركيا الخارجية نحو 470 مليار دولار، وهي ديون قياسية في ظل أزمة مالية تواجهها أنقرة. وعزا خبراء اقتصاديون أتراك ارتفاع الديون إلى تدخلات أردوغان في السياسة النقدية، حيث أقحم نفسه أيضاً في معركة خفض نسبة الفائدة، وعزا نسبة التضخم وارتفاع معدّل البطالة وتقلّص النمو لنسبة الفائدة المرتفعة، وهو تحليل يناقض القواعد العلمية للاقتصاد. وشن أردوغان حملة تصفيات سياسية ضد الكوادر والكفاءات بالبنك المركزي ممن عارضوا تدخله في السياسة النقدية، ما أربك القطاع النقدي مسبباً له مشاكل متعدّدة وعلى أكثر من اتجاه.

كما تسببت تصريحات أردوغان العدائية واستفزازاته لدول أوروبية في ملف المهاجرين والتنقيب عن النفط في مياه المتوسط، بنفور المستثمرين وهروب الرساميل الأجنبية من تركيا، ما ساهم في انهيار الليرة إلى مستويات غير معهودة.

وبعد أن وضع الجهاز القضائي تحت إمرته، وأعاد تشكيل الأجهزة الأمنية على مقاسات إيديولوجية يما يخدم مشروعه وطموحاته الشخصية السلطوية، حوّل أردوغان تركيا إلى سجن كبير، وقام بحملة تصفية واعتقالات ممنهجة في عموم البلاد، أودع خلالها أكثر من 70 ألفاً تركي، وخاصة من السياسيين والنشطاء الحقوقيين، في السجون، وطرد أكثر من 170 ألفاً تركي من وظائفهم، في المؤسسات المدنية والعسكرية على حد سواء، بذريعة دعم المحاولة الانقلابية، منتصف تموز 2016، كما اعتقل أكثر من 170 صحفياً، خلال السنوات الثماني الأخيرة، بتهم وذرائع واهية، وما زال 90 منهم في السجون، وذلك بسبب اعتراضهم على سياساته في سورية وليبيا والعراق، ودعمه الإرهاب فيها، لتحقيق حسابات شخصية عقائدية ضيّقة متعلّقة بجماعة “الإخوان” الإرهابية.

غرقُ المواطنين الأتراك في مستنقع الديون، منذ أن وصل “حزب العدالة والتنمية” إلى السلطة، أدى إلى ارتفاع نسبة حالات الانتحار، وخاصة بين صفوف الشباب التركي، فعدد محاولات الانتحار في السنوات الخمس الأخيرة بلغ 60 ألفاً و850 حالة، لقي 16 ألفاً و28 شخصاً منهم حتفه، بينما بلغت في السنوات الثلاث الأخيرة 9 آلاف حالة، وبلغ عدد العمال المنتحرين في أماكن عملهم 278 شخصاً خلال السنوات الخمس الأخيرة، وعدد المعلمين المنتحرين في عام 2017 بلغ 42 معلماً.

سلسلة الأزمات الاقتصادية، التي تسبب بها أردوغان، انعكست بتداعياتها على شعبية أردوغان نفسه، حيث أظهر استطلاع جديد أن أغلبية الأتراك لن يصوّتوا له في حال إجراء انتخابات رئاسية الآن، ويدلل معلقون على صحة الاستطلاع بفوز المعارضة برئاسة بلدتي اسطنبول وأنقرة، ما يعتبر مؤشراً حقيقياً على مزاج المجتمع التركي الرافض لسياسات أردوغان الداخلية والخارجية.

لكن أردوغان يتجاهل كل تلك الحقائق، ويحاول ترسيخ فكرة أن بلاده تتعرّض لمؤامرات خارجية، اقتصادية وسياسية، في محاولة للهروب إلى الأمام والتملّص من مسؤوليته المباشرة عمّا آلت إليه الأوضاع، اجتماعياً واقتصادياً، من انهيار.

 

ثورة شعبية

تؤكّد المعارضة التركية ضرورة تغيير الدستور للتخلّص من سطوة أردوغان وسياساته التي أوصلت تركيا إلى حافة الدمار الاقتصادي، فيما يشدّد مراقبون على أنه “لم يبقَ لتركيا أمل في التخلّص من أردوغان ونظامه، سوى الشارع التركي، الذي باستطاعته تحرير بلاده من الخضوع التام له، خصوصاً وأن الجيش بات خاضعاً تماماً لسيطرة أردوغان بعد اعتقال وإقالة عشرات الآلاف من الجنود وكبار الضباط بذريعة المشاركة في انقلاب عام 2016، وهي اعتقالات قلّلت من احتمال حدوث انقلاب عسكري يطيح بأردوغان، لكن احتمالية حدوث انتفاضة شعبية ضده واردة جداً رغم ممارسات القمع الممنهج ضد شرائح المجتمع التركي”.