مجلة البعث الأسبوعية

اليسار يعود مظفراً الى بوليفيا.. استراتيجيات “تغيير النظام” ليست مرشحة للنجاح دائماً!!

“البعث الأسبوعية” ــ تقرير العدد

بعد أشهر من عدم اليقين، كان لصناديق الاقتراع حكمها مرة جديدة في بوليفيا. لقد عزز انتخاب لويس آرسي، نائب إيفو موراليس، ومرشح الحركة نحو الاشتراكية، فكرة أن الكلمة الأخيرة في ممارسة السيادة ستذهب دائماً إلى الشعب.

وعلى كل حال، فهي لم تكن كأية انتخابات أخرى.. ضغوطات وتهديدات داخلية: مبادرة المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة لحظر حزب موراليس السياسي “الحركة نحو الاشتراكية”، وخارجية: وجود العديد من مستشاري الإدارة الأمريكية في محاولة لإمالة كفة الانتخابات والتأثير عليها. ولكن ذلك لم يمنع من فوز “رفيق موراليس” من الجولة الأولى، وبفارق كبير عن منافسه الرئيسي كارلوس ميسا (52. 4% مقابل 31. 5%(.

وإلى جانب العودة إلى الشرعية الديمقراطية بعد انقلاب عسكري وقضائي، فإن لهذه الانتخابات ميزة لا يمكن إنكارها، وهي أنها وضعت النقاط على الحروف، فقد جاءت، بادئ ذي بدء، رداً مهذباً على جميع أولئك الذين كانوا اتهموا موراليس بالتزوير في انتخابات تشرين الأول 2019، وبأن انتصاره لم يكن ديمقراطياً، والحقيقة، فقد جاء فوز لويس آرسي ليؤكد العكس، وللعلم، فقد حصل منافسه كارلوس ميسا على عدد من الأصوات، في عام 2020، أقل مما كان حصل عليه في عام 2019 (31.5٪ مقابل 36.51٪(.

ينبغي أيضاً ملاحظة التجييش النشط لوسائط الإعلام المهيمنة، ضد اشتراكيي بوليفيا، ليس فقط في الغرب، ولكن أيضاً في أجزاء أخرى كثيرة من العالم، بما في ذلك بعض البلدان الأفريقية، ما يؤكد حقيقة بسيطة مفادها أن واشنطن والغرب السياسي قررا تعبئة أكبر قدر ممكن من أجهزة “التعاقد من الباطن”؛ ولكن كل هذا التحريض على زعزعة الاستقرار، في نهاية عام 2019، وكل ذلك الاستخدام النشط لأساليب الثورة الملونة، وجد نفسه، عام 2020، في مواجهة تعبئة شعبية قوية معاكسة، تضم في مقدمتها البوليفيين الأصليين. ولقد تمثلت كل حكمة إيفو موراليس، الذي اتهمه الغرب بالاحتيال والتزوير والتشبث بالسلطة، على وجه التحديد، في فعل الابتعاد لبعض الوقت، مع الحفاظ على التواصل الدائم مع الملايين من مؤيديه في الداخل، والذين ظلوا معبئين في بيئة سلمية.

على المستوى الجيوسياسي الإقليمي والدولي، فإن فوز لويس آرسي والحركة نحو الاشتراكية يبث حياة جديدة في المعسكر التقدمي لأمريكا اللاتينية ومؤيدي العالم المتعدد القطبية. خاصة عندما نعلم أنه، ومنذ الإطاحة غير الشرعية بموراليس من قبل الطغمة الانقلابية، ووصول العديد من المستشارين الأمريكيين إلى لاباز، اتخذت الكوادر الموالية لواشنطن بسرعة تدابير عاقبت البلاد في نهاية المطاف، مثل إبعاد الأطباء الكوبيين، والهبوط بالعلاقات مع العديد من بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى.

 

صفعة مؤلمة

من الآن فصاعداً، من المعتقد أن الرئيس المنتخب حديثاً سوف يتمكن بسرعة من إصلاح الأساليب التي كانت مطبقة بإملاء من الفريق الانقلابي. ولكن هل من الضروري أن نعتبر أن واشنطن قد تعلمت الدرس لتدع بوليفيا تعيش في سلام، فضلاً عن سائر دول أمريكا اللاتينية ذات السيادة؟ بالطبع، هي لا تريد ذلك، فالضغوط والتهديدات وزعزعة الاستقرار بجميع أنواعها ومحاولات الانقلاب ستستمر دون شك. ومع ذلك، واشنطن، كما قوى التعاقد من الباطن بالتأكيد، سوف تتذكّر، ولفترة طويلة، الصفعة التي تلقتها.

كما يفعلون في كثير من الأحيان عندما يخسرون (بوليفيا وفنزويلا وبيلاروسيا مؤخراً) يصرخ المرشحون الموالون للغرب، بدعم من الدول الراعية لـ “التحالف الغربي”، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بتزوير الانتخابات ويحاولون عكس النتائج باضطرابات الشوارع، مع الدعم والتدخل السياسي والإعلامي والدبلوماسي، والعسكري في بعض الأحيان، من الثلاثي الجهنمي القابع في “مجلس الأمن”، ثلاثي “زرع الفوضى” على هذا الكوكب: “الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا”. إن مثل هذه الأعمال التدخلية، يشار إليها بتواضع في الغرب باسم عمليات “تغيير النظام”، والثورات “الملونة”، وحتى ثورات “الربيع”.

ولا تنجح عمليات “تغيير النظام” هذه دائماً (سورية، إيران، فنزويلا، بيلاروسيا على سبيل المثال)، ولكنها تنجح أحياناً كما كان الحال في بوليفيا، في تشرين الأول 2019، حيث كان فساد أعلى التراتبيات الهرمية في الجيش والشرطة والقضاء كافياً لكي تعمد الأقلية إلى إرغام الفائز في الانتخابات، وهو إيفو موراليس، على الاستقالة، وسلوك طريق المنفى إلى الأرجنتين، ومن ثم لتعلن عضوة في مجلس الشيوخ عن المعسكر الخاسر، جانين أنيز، نفسها رئيسة مؤقتة، وتعترف بها، على الفور، الولايات المتحدة التي دعمت الانقلابيين. وقد “أخذ الاتحاد الأوروبي وفرنسا علماً” باستقالة موراليس “القسرية”، والاستيلاء على السلطة من قبل الأوليغارشية اليمينية المحافظة دون أن تجد في ذلك أية غضاصة.

وفي محاولة لقطع الطريق على أية عودة محتملة لموراليس الذي يحظى بشعبية كبيرة، رفعت الحكومة المؤقتة “والأقلية” على الفور دعوى قضائية ضد الرئيس المنتخب، بتهمة “الإرهاب والإبادة الجماعية”، وأرجأت، على التوالي، تنظيم انتخابات جديدة على أمل أن يغير الشعب البوليفي رأيه في نهاية المطاف، ويصوت لصالحها. ومن الواضح أن السلطة الجديدة انتهزت الفرصة لمقاضاة جميع قادة أغلبية موراليس وحلفائهم السياسيين من أجل قطع رأس أي معارضة.

هذه “المهزلة الديمقراطية”، والتي كانت، بكل وضوح، انقلاباً مدبراً ومنظماً موالياً للغرب، وصلت إلى نهايتها في 20 تشرين الأول 2020، مع الانتصار المظفر والمضخم لحزب موراليس. حقيقة، لم يسمح لموراليس بالترشح مرة أخرى، ولكننا شهدنا فوز وصيفه لويس آرسي، في الجولة الأولى من الانتخابات، وبفارق 21 نقطة عن منافسه الرئيسي المؤيد للولايات المتحدة.

 

الحركة نحو الاشتراكية

يجمع حزب “الحركة نحو الاشتراكية”، وأكثر من أي حزب آخر قائم على أيديولوجية محددة، بين قوى اجتماعية وسياسية مختلفة: النقابات والحركات الفلاحية، ومنظمات الأحياء، وشرائح الطبقة المتوسطة، وهو قوس قزح من الاتجاهات التي تتراوح بين هندية السكان الأصليين والقومية المحلية، بين الصراع الطبقي والديمقراطية الاجتماعية. إن الجدارة العظيمة لإيفو موراليس، وقوته العظيمة، هي أنه تمكن من الجمع بين كل هذه القطاعات من خلال تلك “الأداة السياسية” التي تمكنت من وضع حد لأكثر الليبراليات الجديدة كاريكاتورية تم فرضها على البلاد منذ الثمانينيات.

قاد إيفو موراليس العديد من التغييرات التي غيرت الديناميكيات الاقتصادية في البلاد. وكانت النتيجة نمواً مطرداً بلغ 4.9٪ على مدى 13 عاماً، ـما أدى إلى انخفاض الفقر بنسبة 42٪، وحالات العوز بنسبة 60٪، وفقاً للوكالات الدولية. وتضاعف إنتاج النفط، ولكن الإيرادات التي تحققت زادت بمقدار سبعة أضعاف تقريباً خلال هذه الفترة بفضل تأميم الشركات وتنظيم الموارد الطبيعية. المؤشرات الاقتصادية الأخرى كانت إيجابية بدورها، فقد انخفضت نسبة البطالة من 7.7% إلى 4.4%، بين عامي 2008 و2019، ولم ينخفض الاستثمار (ازداد الاستثمار العام حتى في فترات الأزمة الاقتصادية). وقد نظر البوليفيون إلى هذه النتائج الاقتصادية بشكل جيد، ويعتبر هذا أحد الأسباب التي جعلت موراليس يتصدر استطلاعات الرأي قبل انتخابات تشرين الثاني 2019، التي أعادت رفاق إيفو موراليس إلى قيادة البلاد.

 

“صبي تشوكواغو

يقول المحللون إن الحكومة استخدمت وضعاً خارجياً مواتياً للحد من أوجه عدم المساواة في المجتمع، فقد ازداد سعر المواد الخام وحجم الموارد الطبيعية (ولا سيما النفط والغاز) التي تمتلكها بوليفيا، وهذا صحيح تماماً، ولكن هذه النجاحات لها اسم: لويس آرسي، الوزير في جميع حكومات إيفو موراليس، باستثناء 18 شهراً، بين عامي 2017 و2019، كان يعاني خلالها من مشكلة صحية. ولحسن الحظ، تزامن رحيله عن الوزارة مع انتهاء الوضع الخارجي المؤاتي للاقتصاد.

ولكن آرسي هو السياسي الذي يحظى بأقل الدعم وسط شريحة من القطاعات الشعبية، لأنه ليس من السكان الأصليين، فهو في الأصل من العاصمة (ولد في لاباز عام 1963)، لكن ينظر إليه على أنه مهندس الأزمنة الجيدة للاقتصاد البوليفي حتى من قبل الطبقات المتوسطة.

كان آرسي – ابن أستاذي المدارس الحكومية – قلقاً، في شبابه، من أن بلداً لديه الكثير من الثروة لديه مثل هذه المستويات العالية من الفقر. ولهذا السبب اختار دراسة الاقتصاد، وقد حصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة سان أندريس، والماجستير في الاقتصاد من جامعة وارويك (بريطانيا).

عندما كان طالباً، عرف عن نفسه بالفعل بأنه اشتراكي. وفي أواخر التسعينيات، شكل مجموعة نقاش وتحليل مع أعضاء الحزب من أجل التحول الاقتصادي في البلاد. وقال في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال”، في عام 2014: “كان التحدي الأول الذي اتّسمنا به هو أن نُظهر أننا اليسار، وأن ندير الاقتصاد بشكل أفضل من اليمين”.

بعد دراسته، التحق بالبنك المركزي في بوليفيا كموظف مدني، حيث ظل مدة 19 عاماً، بينما كانت البلاد محكومة من قبل أحزاب يسارية ويمينية، وقد كلفه ذلك انتقادات حادة لأنه، وفقاً لبياناته الخاصة، انضم إلى فريق عمل لم يشاطره أساليبه وأهدافه.

عندما وصل إيفو موراليس إلى السلطة، كان ينظر إلى ولاية آرسي في الفريق الاقتصادي على أنها علامة على الاستمرارية، وتمكن بذلك من تهدئة مخاوف أولئك الذين كانوا يخشون من أن مزارع الكوكا سوف تكون تحت رحمة قرارات متهورة. وفي العديد من المقابلات، روى الوزير السابق حكايات عن أوقات أراد فيها موراليس اتخاذ قرارات ما، ولكنه تمكن من تعديلها، وهو ما اعترف به الرئيس أيضاً في مناسبات مختلفة.

على سبيل المثال، خلال السنة الأولى من عمله في الحكومة، أراد موراليس مضاعفة رواتب موظفي الخدمة المدنية ومصادرة أصول شركات الغاز الأجنبية. لمرتين، أقنعه آرسي وأعضاء آخرون في الفريق الاقتصادي بأن هذه ليست أفضل الخطوات التي يجب اتخاذها في ذلك الوقت، ذلك أنه سيساء تفسيرها، ومن الأفضل اللجوء إلى قرارات أقل إثارة للجدل، وجعلها تستمر مع مرور الوقت لتحقيق النتائج نفسها. “كارل ماركس قال: “للحصول على قفزة إلى الاشتراكية، عليك تطوير قوى الإنتاج. هذا ما نقوم به”، في إشارة إلى الطريق الطويل الذي تم اختياره لاستكمال التحولات التي أسفرت عن نتائج إيجابية وشعبية.

في الوثيقة الرسمية التي قدّمت الأنموذج الاقتصادي والاجتماعي الجديد، في عام 2011، أوضح آرسي: “هذا أنموذج للانتقال إلى اشتراكية سيتم فيها، تدريجياً، حل العديد من المشاكل الاجتماعية وتعزيز الأساس الاقتصادي للتوزيع السليم للفوائض الاقتصادية”، وأكد أنه “لا يمكنكم تحقيق تحول ميكانيكي من الرأسمالية الى الاشتراكية، بل تحتاجون الى فترة وسيطة”.. وفي حكومة شكلها في معظمها ممثلون من السكان الأصليين وممثلون اجتماعيون لهم تاريخهم الطويل، مثّل آرسي مجموعة صغيرة من المحترفين المعروفين باسم “تشوكواغو بويز”، وهو تشويه لاسم “شيكاغو بوي” الذي تشكل على اسم مدينة لاباز.

أخيراً.. لقد شكلت نتيجة الانتخابات الجديدة في بوليفيا صفعة على وجه الغرب الذين يصر على التدخل في شؤون دول ذات سيادة باسم ديمقراطية ذات هندسة متغيرة يروج لها، وهو ما يسلط الضوء على ازدواجية هذا الغرب وأساليب عمله الإجرامية، بدءاً من انقلاب ميدان في أوكرانيا، إلى الانتخابات الرئاسية البرازيلية التي حظر فيها على المرشح الأكثر شعبية (لولا) اللجوء إلى العدالة؛ إلى الانتخابات الرئاسية في كل من فنزويلا وبيلاروسيا حيث لا يعترف الغرب إلا بمرشحين من الأوليغارشيات، لسبب وحيد هو أنهم موالون له، وحتى سورية حيث وحدهم، الغربيون وعملاؤهم، يعملون منذ سنوات على “تغيير النظام”، لأنه لا يناسبهم، أو بالأحرى، لأنه لا يناسب “إسرائيل” والصهيونية العالمية.