الدراما التلفزيونية والحرب
عندما عُرض مسلسل “ممالك النار” -2019- للسيناريست المصري “محمد سليمان عبد المالك”، وفي الفترة التي كادت ساعة الصفر فيها أن تقوم، لاندلاع حرب بين أم الدنيا وتركيا وخلفها الفكر العثماني والسلفي، قام وزير الثقافة والسياحة في حكومة العدو التركي بالتعليق عليه بأنه يسيء لتركيا، متهماً صُنّاع المسلسل بالسعي للإساءة لسمعة تركيا التاريخية، حينها ردّ كاتب العمل بالقول: “المسلسل محاولة لاستثمار الفن في توسيع وعي المتلقي ومداركه، وعلينا أن ندرك أننا في معركة وعي مستمر، تحاول تركيا حسمها لمصلحتها بتقديم أعمال زائفة ولا ترصد الحقائق بصورة محايدة”.
“ممالك النار” كان أول عمل عربي يقف في وجه أعمال الدراما التركية، خصوصاً تلك التي ذهبت نحو العمل على إحياء المشروع العثماني البائد، وذلك بتزييف التاريخ وتكذيب الواقع والوقائع، من خلال مسلسلات مثل: (حريم السلطان-2011-139 حلقة، قيامة أرطغرل-2014 -5 مواسم، 150 حلقة، قيامة عثمان-2019-29 حلقة) بعد أن أغرقت الشاشات العربية بدراما الرومانس السمجة، والتي لم تكن إلا طعماً التقطه المشاهد العربي وانجذب إليه، بعد أن وظّفوا فيها كل عوامل الجذب: الصورة المبهرة، الأماكن الفخمة، الممثلون المشغول على انتقائهم بعناية بالغة، القصة الغرامية “اللايت” بمحتواها الفارغ والمكرّر والمعيب أخلاقياً كسفاح القربى. والأهم أنهم استخدموا للترويج لها في الدوبلاج، أصوات الممثلين السوريين، التي ألفها الجمهور العربي برمته، ووضعوها في خدمة تلك “الدراما”، الأمر الذي كان أحد أهم أسباب انتشارها في العالم العربي، حتى أنهم عندما قرّروا الاستعانة باللهجة المصرية والخليجية للموضوع، كاد مشروعهم بأكمله أن ينهار.
وهنا لا بد من لفت انتباه المشتغلين بالدوبلاج لدينا من شركات وممثلين، أن مقاطعة هذه الدراما وعدم الاشتغال فيها، سيجعلها تهوي وحدها، وحينها تنتعش الدراما المحلية مرة أخرى التي قلّت فرص عملهم فيها، فعدا عن كونه لا يجوز أن تقدّم لمن يحتلّ أرضك خدمة بهذا الحجم مهما كان الثمن، فإن واحداً من أسباب تراجع انتشار الدراما المحلية، هو اشتغال بعضها على أعمال درامية تحاكي تلك الدراما في الشكل والمضمون، خصوصاً وأن الدراما التركية الموجّهة وبعناية مثلها مثل طائرات “الدرون” القاتلة، كان لديها فرصة ذهبية في ظهورها على مختلف القنوات العربية الأكثر متابعة، على عكس درامانا التي تمّت مقاطعتها، وهذا انتهى اليوم في ظل الحرب المعلنة بين الدول صاحبة تلك المؤسّسات، وتركيا التي لم يسلم من شرها حتى الماء، ومن المهمّ على شركات الإنتاج الدرامية لدينا، الاستفادة من هذه الفرصة، والعودة لتتصدّر واجهة تلك القنوات مرة أخرى.
واحد من أهم الأعمال في الدراما المصرية في الموسم الرمضاني الفائت كان “الاختيار” –باهر ديودار- بيتر ميمي-ويحكي بطولة مجموعة من الجنود المصريين، يخوضون قتالاً أسطورياً ضد مجموعة إرهابية يتزعمها ضابط مصري إرهابي منشق؛ العمل أثار ضجة كبيرة في مختلف وسائل الإعلام، وتناولته بالنقاش والتحليل، أكبر الشاشات الإخبارية العالمية متابعة، عدا عن الزوابع التي عصفت بها مختلف وسائل ومنصات السوشيال ميديا، لقد حرّك الرأي العام العالمي بعد ركود طويل، حول ما تواجهه مصر من إرهاب تكفيري، وهزّ وجدان وضمائر الناس في العالم العربي بما قدّمه، حتى وصل الأمر بمخرج العمل، أن يطلب من أسر الجنود الذين قضوا في تلك المعركة ألا يشاهدوا العمل حرصاً على مشاعرهم.
تدركُ مصر بتاريخها الفني العريق، ومؤسّساتها الثقافية والإعلامية، التي لم يزل العديد منها محتفظاً بهيبته وسط حالة التقزيم الثقافي المنتشرة في البلاد العربية عموماً، أن الحرب الدرامية اليوم، والتلفزيونية منها بشكل خاص بسبب سرعة انتشارها وقدرتها السلسة في الدخول إلى كل بيت، ليست أقل شأناً بل ربما تفوق بالأهمية الحرب العسكرية، وعليه فقد نجحت إلى حدّ كبير في صياغة محتوى عام للرأي المحلي والعربي والعالمي أيضاً -الذي حظي مسلسل الاختيار باهتمام كبير منه-، ولذا فإنها عندما أرادت أن توظّف هذا الفن في حربها بعد إجازة طويلة كانت فيها، فإنها ذهبت نحو خيارات حاسمة، لا مواربة فيها، تكثيف إعلامي شديد على القصة الحقيقية التي بني عليها “الاختيار” قبل حتى أن يُعلن عن وجود عمل كهذا، حشد لأهم نجوم الدراما لديها في العمل، إضافة إلى الاشتغال على التفاصيل التي يُركز عليها الرأي العام، هذا عدا عن البذخ الإنتاجي الكبير، سواء على “ممالك النار” أو “الاختيار”، مع انتقاء حريص ومحدّد للرسائل التي يُراد إيصالها من خلال العمل.
اليوم والبارحة وغداً، الحرب الإعلامية بأنواعها، هي من أهم وأعتى الأسلحة التي يجب استخدامها، وهذا لا يعيبها ولا يقلّل من شأنها، شريطة أن تكون مصنوعة بإحكام وعناية وتوقيت مناسب، ليس من باب رفع العتب كما يحدث للأسف لدينا حتى اللحظة!.
تمّام علي بركات