رغم أنها لا تزال مقبولة مقارنة بالغير.. تنامي العشوائيات يعكس حقيقة الخلل العمراني
“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي
لعل أبرز نتائج حالات الخلل العمراني الظاهر لعيان كل من القاصي والداني على مستوى سورية، يتجلى بمناطق العشوائيات ومخالفات البناء، التي أصبحت ظاهرة معقدة متداخلة بخيوطها مع تشابكات منظومة الفساد المعلن، رغم صدور كثير من القوانين الخاصة بقمعها والحد من انتشارها، لكن محترفي وهواة الدفع والاستلام من تحت الطاولة ومن فوقها، لم يعدموا الوسيلة للالتفاف على الأنظمة والقوانين تارة، وتجاوزها تارة أخرى، وبمقدار نفوذ المخالف وقدره في المجتمع والدولة وملاءته المالية من جهة، وعدم اكتراث مسؤولي وحداتنا الإدارية وتورطهم بأعمال الفساد من جهة أخرى، بقدر ما تكون المخالفة جسيمة وراسخة رسوخ الجبال، وسنورد من واقع التجربة حالتين لندلل بهما على مدى سخرية وحداتنا الإدارية وازدواجية تعاطيها مع عشوائياتنا.
سخرية
تمثل الحالة الأولى قدرة أحد المخالفين على بناء طابقين إضافيين فوق بناء نظامي يتحمل أربعة طوابق فقط حسب المعايير الهندسية المحددة لهذا البناء، ولم تستطع البلدية ثنيه عن هدفه ولو قيد أنملة..!.
بينما تمثل الحالة الثانية اضطرار أحد السكان في إحدى القرى الصغيرة، لبناء غرفة بجانب منزله الصغير الذي ضاق ذرعاً به وبأبنائه، فاستشاط بذلك غضب البلدية والأجهزة الرقابية، لقمع مخالفته لاعتبارات تتعلق بتشويه المنظر العام والتعدي على المخطط التنظيمي وتقليص المساحة الخضراء، و.. و.. إلخ، علماً أن كثيراً من المخالفات تبنى في وضح النهار في العاصمة دون تدخل أية جهة، أو يكون تدخلها صورياً من باب رفع العتب وذر الرماد في العيون…!
نقطة البداية
الآن وبعد أن استفحلت ظاهرة العشوائيات، وغزت جميع المدن والمناطق والبلدات، تضاربت الأفكار والمبادرات حول كيفية معالجتها والحد من انتشارها، خاصة وأنها ليست وليدة اللحظة وإنما تمتد بجذورها إلى سنوات طويلة مضت، وجاءت نتيجة أسباب عدة اجتماعية واقتصادية وثقافية، حتى بتنا أمام مشهد مشوه يستدعي تدخلاً جذرياً وليس إسعافياً، وعلى متخذي القرار حيال هذا الموضوع أن يعرفوا بالضبط نقطة البداية لوضع برامج وآليات واضحة ومحددة المعالم لاستئصال هذه السرطانية العقارية، وتحديد التدخل في المناطق حسب الأولويات التي تفرضها طبيعتها، هذا إن وجدت الإرادة الفعلية للتغيير التي تستوجب الابتعاد عن القرارات الارتجالية الآنية التي لا تغن ولا تسمن من جوع، بل العكس قد تزيد الطين بِلّة، وينقلب السحر على الساحر.
ما سبق يستدعي بداية من الجهات المعنية ضرورة الوقوف على أسباب هذه الظاهرة ومعالجتها بهدف الحد من انتشارها قبل البدء بوضع أية آلية للتسوية، لاسيما في ظل وجود دراسات وأبحاث ولكنها حسب بعض المصادر الرسمية –للأسف- لا تزال حبراً على ورق، إضافة إلى طرق وتجارب عالمية يمكن الاستفادة منها بهذا الخصوص.
انعدام الاستراتيجية
سرعان ما يتضح لنا وبحكم الاطلاع على مدينة دمشق المحاطة بحزام من العشوائيات أنه لا يوجد لدينا إستراتيجية عامة لمعالجة العشوائيات على مستوى سورية، مع الإشارة هنا إلى العشوائيات المحيطة بدمشق تحتل أكثر من ربع المساحة المبنية ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة وفق مصادرنا، التي اعتبرت أن مشاريع تطوير العشوائيات يجب أن تكون مدروسة على قدر كبير، وأن توجه نحو المناطق الأكثر تعقيداً وليس كما هو حاصل حالياً حيث أن أي مستثمر أجنبي يأتي للاستثمار في سورية يترك له حرية اختيار مكان ونوعية المشروع، والأدهى من ذلك أنه في حال اختارت الجهة العامة المعنية بالمشروع المنطقة المستهدفة، تختار له مناطق خالية من أية إشكاليات، أو أنها تقدم له التسهيلات وتتعهد بإزالة الإشغالات دون أية مفاوضات معه حول تحمله بعض الصعوبات ويشاركها المسؤولية بالتطوير.
ورغم أن الأمر يندرج تحت عمليات الاستقطاب، فلا بد من ضرورة ألا يكون على حساب المناطق المعقدة، فعلى الأقل يجب على الجهة العامة أن تقدم التسهيلات في المشروع الأول فقط، على أن يوجه المستثمر نحو مشاريع ذات إشكاليات نسبية في الثاني، وإشكاليات أكثر في الثالث.. وهكذا.
جشع
فيما يخص المستثمرين المحليين، سرد لنا أحد المعنيين بدراسة العشوائيات والارتقاء بها حواراً دار بينه وبين أناس يعتبرون أنفسهم مطورين عقاريين – حسب وصفه – وذلك خلال لقائه بهم في إحدى الندوات التي أقيمت قبل الأزمة، وكانوا وقتها يتنازعون على المناطق العشوائية الخالية من التعقيدات بغية الحصول على نسب بناء عالية لتشييد أبراج سكنية، فقال لهم: لماذا لا تستثمرون وتطورون المناطق المعقدة طالما أنكم مطورون عقاريون وطنيون؟
فأجابوه: إننا نبحث عن المناطق السهلة ذات الجدوى الاقتصادية.
فردّ عليهم: هذا استغلال عقاري وليس تطويراً عقارياً، لأنكم تريدون أخذ المناطق الزراعية واستغلالها بعد تغيير صفتها العمرانية.
ما سبق يوضح حقيقة مطورينا وتهاون جهاتنا العامة بالتعاطي مع المشاريع الكبرى الاستراتيجية والحيوية، ويفرض على الحكومة أن تعيد النظر بسياساتها العقارية كافة، وأن تركز فيها على عامل المنفعة المتبادلة، والقيام بمبادرات جديدة تخدم السياسة الإسكانية، كأن تتعاقد مع مستثمرين أو تتشارك معهم وفق صيغ معينة مثل الـ ” BOT ” لبناء ضواحي سكنية عامة يتم تأجيرها لطالبي السكن بما يتناسب مع وضعهم المعيشي.
خصوصية
على اعتبار أن لكل منطقة خصوصية تختلف عن الأخرى، تتعلق بالحالة الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية الجيولوجية والهندسية، فإن ذلك يوجب أن يكون التدخل فيها مبنياً وفق أولويات تحدد طبيعة هذا التدخل (سريع – متوسط المدى – طويل المدى)، ففي بعض المناطق تكون الحالة الإنشائية والهندسية للأبنية المشادة فيها لا بأس بها ولا تستدعي تدخلاً كبيراً، فيكفي تقديم مجموعة من الخدمات إلى جانب دراسة تجميلية لها، وبعض المناطق أبنيتها ضعيفة تستوجب تدخلاً أكبر (هدم أجزاء منها وإعادة بنائها)، ومناطق أخرى كثافتها السكانية عالية جداً تصل إلى 1400 نسمة في الهكتار الواحد، وأبنيتها لا تتوافق وأدنى المعايير الهندسية، وهذه تستدعي تدخلاً سريعاً عن طريق الهدم وإعادة البناء.
الخلاصة
رغم أن ملف العشوائيات من أكثر الملفات تعقيداً، إلا أن المشهد العام لها في سورية لا يزال مقبولاً إلى حد ما مقارنة بكثير من دول العالم، حيث أن ظاهرة السكن العشوائي في سورية لا تعتبر ظاهرة لها خصوصية مميزة فهي ليست صفيحاً ولا عششاً، بل هي مناطق سكنية تتمتع بكافة الخدمات المقدمة للمساكن النظامية في مراكز المدن من حيث الكهرباء والمياه وشبكات الصرف الصحي، أما من الناحية الإنشائية فإن عوامل الأمان غير موثوقة بالعديد من هذه المناطق، وقد يتطور الموضوع ويخرج عن السيطرة الكلية في حال استمرار نموها المطرد، وبالتالي يصبح الصفيح جزءاً لا يتجزأ من عشوائياتنا، لذلك لابد من تفعيل شركات التطوير العقاري وتوجيهها نحو عشوائياتنا ضمن شروط تجعل منها أداة فاعلة وقادرة على قلب منظومة المخالفات وتحويلها إلى ضواحي سكنية بمواصفات عصرية، ونعتقد أنه على وزارة الإدارة المحلية وهيئة التطوير والاستثمار العقاري أن تلعبا دوراً في هذا الشأن بحيث تسارع الأولى لحل إشكالية التملك في العشوائيات عبر تفعيل القانون 33 لعام 2008، وأن تحدث الثانية مناطق تطوير تطال العشوائيات وتوجه الشركات نحوها لتطويرها.