الرواية المعاصرة
ثمّة ميزة أساسية في كتاب روبرت إيغلستون “الرواية المعاصرة”، وهي التوازن الجميل بين شروحاته لبعض المزايا الخاصة بالرواية وقراءة تلك المزايا في سياق روايات معاصرة، ولم يجنح “الكتاب” للإفراط الروائي، مثلما لم يقتصر على محضر قراءة لبعض الروايات، لذا فهو دراسة تطبيقيّة في كيفيّة توظيف الروايات المعاصرة لبعض الموضوعات الروائية الخاصة بها والتي تجعلها متمايزة عمّا سواها من الروايات، وهذه الميزة جعلته ذا فائدة لكلّ من القارئ والأكاديمي معاً، يمكن للرواية أن تكون أداة من الأدوات الفاعلة في تحقيق السلام العالمي وتخفيف حدّة النزاعات الدولية، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الرواية الأفريقية والآسيوية ورواية منطقة الكاريبي، وأمريكا اللاتينيّة، تلك الروايات التي كانت الحامل الأعظم لشعلة الثقافات السائدة في تلك العوالم والتعريف بها وانتزاع الإعجاب العالمي بمنجزاتها الفذّة، وهو الأمر الذي عمل –مع عوالم أخرى– على كسر النظم العسكرية القامعة فيها، ودفع العالم للوقوف إلى جانب تطلعات تلك الشعوب في نيل الحرية ومغادرة الإحساس المقيت بالمظلومية، ومن ثم المساهمة الفاعلة في رفد الثقافة العالمية وتعزيز الحسّ الإنساني.
ثمّة رواية عظيمة كتبها الروائي ما بعد الحداثي الإيطالي “إيتالوكالفينو” عنوانها “لو أنّ مسافراً في ليلة الشتاء” تبدأ الرواية بحكاية، ثم في سياق تلك الحكاية يجد شخوصها كراسة يوميات، وفيها يجد الأبطال الروائيون حروفاً، وهكذا نجد أنصاف حكايات من غير خواتيم محدّدة، وبلا نهايات متوقعة، إنها سلسلة ممتعة ومتدفقة على الرغم من أنها مُحبطة نوعاً ما.
تعلّم “ديفيد ميتشيل” الكثير من “إيتالو كالفينو” ووظّفه في روايته “سحابة أطلس” التي لاقت نجاحاً هائلاً. نجد العديد من الحكايات المتشابكة، غير أنها تختلف عن رواية كالفينو، من حيث أن القارئ سيقرأ عن الأنصاف الثانية من الحكايات لا محض الأنصاف الأولى، وبهذه الكيفيّة يكون الكاتب قد أشبع رغبة القارئ في معرفة الحكايات كاملة، وهي مثال صارخ لكاتب تمرّس في الملاعبات والحيل ما بعد الحداثية وعرف كيف يطوّعها لخدمة رؤيته الروائية، وهذا ما يميّز الكتّاب ما بعد الحداثيين الذين كانوا مخلصين للحفاظ على الحسّ السردي الروائي وإعادة المستحق له. إنه يعتمد على الحكاية في روايته، ويتمّ سردها من خلال كراسة يومية، ومرويات تخيلية، ونصوص أفلام، وقصص رواية خيال علمي تبدو مثل جهاز اتصال يبث من المستقبل البعيد، ثم في وسط الرواية يتحوّل سياقها إلى ما يشبه الحكايات الفلكلورية المحكيّة بلغة مكتشفة، ومن هذه الجزئيات يمكن عدّ الرواية الحكاية سردية منشغلة بالتقنيات التي سعى الكاتب لجعلها تمثيلاً روائياً فردياً وخاصاً بهذه الرواية، وكذلك للكيفيّة التي تتغيّر بها التقنيات مع الزمن. ويمكن القول بثقة، إنّ الأدب المعاصر مدهش وفاتن لأنّه حافل بالجدة دوماً، ويشهد تغيّراً ثابتاً ينقطع خلال القراءة، وما تقوله اليوم بشأن أية رواية معاصرة قد لا يكون صحيحاً برأيك بعد خمس سنوات –مثلاً– من قراءتك الأولى، ولكن التحديد الذي أعنيه هو أنّ هذا الكتاب سيكون قد استنفد أغراضه وبات خارج نطاق التداول خلال فترة قصيرة، ولكنني لا أرى في هذا الاندثار مآلاً سيئاً حتى ما اختصّ الأمر بكتاب يتناول الرواية المعاصرة، الرواية ما بعد الحداثة تؤكد على أنّ الرواية نصّ إبداعي وعلى استخدام أشكال أخرى من الكتابة، وتأكيد على دور القارئ في تأويل النصّ وتفسيره، وعلى استبعاد النهايات المقفلة والخواتيم الحاسمة، وتضمين أصوات المهمّشين الذين غالباً ما استبعدوا من التيار الرئيسي للتأريخ وتمثيلاته المدوّنة. يمكن للرواية أن تموضع الاهتمام باتجاه أعاجيب الحياة اليومية، ومثالبنا الشخصيّة ومثالب الآخرين، وكذلك باتجاه آمالنا وطموحاتنا.
روبرت إيغلستون: أكاديمي وكاتب بريطاني، ولد عام 1968، ويعمل أستاذاً للأدب والفكر المعاصر في قسم اللغة الإنكليزية، له العديد من الكتب، منها: ما بعد الحداثة– النقد الأخلاقي.
“الرواية المعاصرة” للكاتب روبرت إيغلستون ترجمة وتقديم: لطيفة الدليمي، صادرة عن دار المدى بدمشق، وتقع في 232 صفحة من القطع المتوسط.
فيصل خرتش