مجلة البعث الأسبوعية

نهاية القوة الأمريكية.. إعادة انتخاب ترامب ستؤدي إلى الانحدار!!

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

إذا نجح الرئيس دونالد ترامب في الفوز مرة أخرى، فلن تتغير أشياء كثيرة، وسوف تستمر نظرته الضيقة في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، كما ستبقى مقاربته غير المنطقية في القيادة العالمية، وازدراء الحلفاء، والولع بالديكتاتوريين، طوال فترة ولايته الثانية.

ولكن بعيداً عن السياسة، فإن من شأن فوز ترامب أن يمثل تغييراً جذرياً في علاقة الولايات المتحدة ببقية العالم، وسوف يشير إلى الآخرين بأن واشنطن تخلت عن تطلعاتها إلى قيادة عالمية، وسيؤدي ذلك إلى فترة من الفوضى والصراع المحتدم، حيث ستقوم الدول بكل ما بوسعها للدفاع عن نفسها، وستؤكد ولاية ترامب الثانية ما بدأ كثيرون يخشونه: أن القوة الأمريكية ليست سوى شيء من الماضي.

 

سجل ترامب

توفر ولاية ترامب الأولى دليلاً لما سيأتي، ففي ظل قيادته، تخلت الولايات المتحدة عن بعض الالتزامات الدولية الرئيسية، بما في ذلك اتفاقية باريس للمناخ، وجعلت علاقاتها مع الحلفاء في الناتو أكثر برودة، كما حددت مساراً للمواجهة مع الصين، واتبعت سياسة غير متماسكة تجاه روسيا (يتعارض إعجاب ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع العداء الذي يكنّه الكونغرس وبيروقراطية واشنطن لموسكو)، كما أدت علاقة الإدارة الوثيقة والاستثنائية بإسرائيل، إلى جانب الشراكات مع دول الخليج، إلى تسريع التحول في سياسات الشرق الأوسط، فقد تراجعت قضية إقامة الدولة الفلسطينية، ليتحول التركيز نحو إنشاء تحالفات ضد إيران، وبات “القلق” بشأن حقوق الإنسان مجرد وسيلة ليس إلاّ، ورافعة لدعم السياسات المحلية، حيث يتجاهل المسؤولون الأمريكيون إلى حد كبير أمريكا اللاتينية وأفريقيا وينظرون إلى علاقاتهم مع الدول الآسيوية من منظور التجارة.

كانت لدى ترامب ومستشاريه نظرة فجة إلى العالم تم التعبير عنها من خلال شعار “أمريكا أولاً”. ويدرك الأمريكيون دلالات هذه العبارة من الأربعينيات، عندما كانت حراكاً لإبقاء الولايات المتحدة خارج الحرب العالمية الثانية، فليس لدى ترامب ومستشاريه النية للانخراط في مشاريع لـ “توسيع الحرية” أو حتى مجرد الدفاع عنها، لكنهم يريدون استخدام حقوق الإنسان كعصا ضد الصين، ولديهم نفور من المنظمات الدولية، بما في ذلك تلك التي أسهمت الولايات المتحدة في إنشائها بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى عكس معظم أسلافهم، فهم لا يرون في قيادة هذه المؤسسات أداة لسطوة الولايات المتحدة بل تقييداً لها (لدى الصينيين نظرة معاكسة تماماً، ولذلك كانت مشاركتهم المتزايدة في الأمم المتحدة)، وترى إدارة ترامب العالم ساحة لمنافسة تجارية وعسكرية وحشية ليس للولايات المتحدة فيها أصدقاء، بل مصالح فقط.

تنطوي هذه النظرة على بعض التناقضات الداخلية، على الأخص فيما يتعلق بروسيا، لكنها تأتي – على الرغم من فجاجتها- صدى واضحاً لمنظومة تفكير قديمة في السياسة الخارجية الأمريكية.. إنها تعكس ما أشار إليه المؤرخ آرثر شليزنجر، قبل 25 عاماً، بالرغبة في “العودة إلى الرحم”، وهو شكل ساذج وغير مقبول في نهاية المطاف من الانعزالية.

قلل شليزنجر من تقدير المدى الذي كانت فيه الولايات المتحدة قوة منخرطة عالمياً، فالدافع الانعزالي – لا سيما في تجلياته العدائية – كان موجوداً لفترة طويلة جداً. ويظهر ترامب فقط نسخة واحدة من وجهة النظر القائلة بأن الآخرين يلعبون دور الأمريكيين كأغبياء، وأن المؤسسات الدولية هي أدوات شائنة لأولئك الذين قد يحدون من نفوذ الولايات المتحدة، وأن سفك الدماء والرعب في أماكن أخرى لا يمكن أن يؤثر حقاً على “جمهورية” عملاقة محاطة بمحيطين كبيرين، ودولتين أضعف بكثير.

 

الأسلوب والجوهر

اتسمت الولاية الأولى لإدارة ترامب بنوبات متكررة من التفجيرات والإهانات والصدام مع الحلفاء، فضلاً عن الإطراءات السخية التي قُدمت للديكتاتوريات الخليجية. كما اتسمت أيضاً بعدم الكفاءة الإدارية، والتي تفاقمت بفعل عدم رغبة المنصة العميقة للحزب الجمهوري في السياسة الخارجية والمتخصصين في الأمن القومي بخدمة زعيم يكرهونه ويحتقرونه. إذن، فإن مسألة الولاية الثانية تتطلب التفكير على مستوى سياسات الإدارة وعلى مستوى أسلوبها.

من وجهة نظر السياسة، تتعلق أكبر حالة من عدم اليقين برغبة ترامب المعاد انتخابه بضمان مكانته في التاريخ، وهو دافع معروف جيداً لدى الرؤساء في ولاياتهم الثانية، حيث يسعى الرئيس عادة إلى إشباع هذه الرغبة من خلال التوصل إلى صفقة كبيرة، و”السلام الإسرائيلي الفلسطيني” هو الهدف المفضل دائماً، وهناك أيضاً إنهاء الحروب أو المصالحة مع أعداء قدامى.

بالنسبة لترامب، فإن فكرة عقد “صفقات” كبيرة أمر محوري في تقديمه لنفسه كرجل أعمال أضاف خبرته السوقية إلى أعمال الحكومة. وأكبر صفقة سيتم إبرامها ستكون المفاوضات التجارية مع الصين، والتي من شأنها أيضاً تخفيف التوتر الاستراتيجي المتزايد بين البلدين. وقد تشمل الصفقات الأقل “اتفاقية سلام إسرائيلي فلسطيني” ولربما بعض المصالحة المهمة مع روسيا. ولضمان ذلك، من المحتمل أن يكون ترامب – المتكرر الإفلاس، والذي اتخذ على الصعيد الشخصي قرارات تجارية سيئة للغاية بشأن الكازينوهات وشركات الطيران وملاعب الغولف – على استعداد للتخلي عن الكثير. وبعد كل شيء، ومقابل لا شيء، فقد أعطى بيونغ يانغ هدية الزيارات الرئاسية، وأوقف التدريبات العسكرية مع كوريا الجنوبية. ويمكن للمرء أن يتوقع شيئاً مثيراً، مثل تسليم تايوان إلى الصين، أو الرضوخ للتجسس الصناعي الصيني في الولايات المتحدة.

ومع ذلك، لا تملك أي من هذه الصفقات الكبيرة فرصة متاحة، فالتنافس بين الولايات المتحدة والصين متجذر الآن ليس فقط في المنطق الجيوسياسي للصين الصاعدة، ولكن أيضاً في الشكوك العميقة المتبادلة، ورغبة الرئيس الصيني شي جين بينغ في البدء بتطهير منطقته من النفوذ الأمريكي. وحتى لو كان ترامب يريد صفقة، فقد لا تلتقي به بكين على الطاولة، وحتى لو فعلت، فإن أي اتفاق قد يتعثر في قاعات الكونغرس القادم. وفي الوقت نفسه، من غير المرجح أن تقدم المفاوضات للفلسطينيين اتفاقاً أفضل مما حصلوا عليه في ظل إدارة كلينتون (بل سيكون أسوأ بكثير، في جميع الاحتمالات) وسيفشل بلا شك في تلبية التطلعات الفلسطينية إلى دولة عاصمتها القدس. بالنسبة إلى نوع من الانفراج مع روسيا، فعلى الرغم من أن ترامب لديه تقارب مع بوتين، إلا أن قلة قليلة من الجمهوريين في الكونغرس أو أعضاء البيروقراطية يشاركونه ذلك.

هذا هو الموضع الذي تبرز فيه قضية الأسلوب، فخطاب ترامب تجاه الحلفاء التقليديين إهانات شبه مستمرة، فهو بالتأكيد لا يولي اهتماماً كبيراً لمصالحهم ومخاوفهم؛ وعلى الرغم من أنه يعتقد أن الولايات المتحدة يمكنها إبرام صفقة مع الصين بمفردها، إلا أنه سيتعلم أنه من الصعب القيام بذلك إذا عارضها حلفاؤها الآسيويون، ومن الصعب توقيع صفقة سلام في الشرق الأوسك إذا تركت الأنظمة المحلية الموالية لواشنطن مكشوفة، أو التوسط في تسوية مع روسيا إذا كانت أوروبا ضدها.

والأهم من ذلك، سيجد ترامب نفسه باستمرار في وضع حرج بسبب عدم الكفاءة الإدارية، فبعد أن أزال الكثير من البيروقراطية، سيجد أن عمل السياسة الخارجية لا يتم ببساطة من البيت الأبيض وحده، فالبيروقراطيات التي تفتقر إلى طاقم العمل أو الكفاءة تمارس التعطيل، قصداً أو عرضاً.

لن يتم تقييد يدي ترامب بالكامل، فلو أمر بالعودة من أفغانستان والعراق، أو حتى من أوروبا، فسيحدث ذلك، على الرغم من نجاح البنتاغون في دفعه للتراجع عن الانسحاب من سورية، وكان ذلك ملفتاً.

إذن، ستكون فترة ترامب الثانية، كما لو أن الانعزالي روبرت تافت قد هزم دوايت أيزنهاور في الانتخابات التمهيدية للجمهوريين عام 1952، لكنه عانى بعد ذلك من الاضطرابات العقلية الخطيرة في هذه العملية. فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن هجومية ترامب، بانفجاريته وغروره، وعدم اتساقه، ونرجسيته العدوانية، وضعفه، سوف تتلاشى بعد انتصار غير متوقع على خصم ديمقراطي أكثر شعبية، سوف تلحق نسخته المتقلبة والمستفزة لاستراتيجية “أمريكا أولاً” أضراراً أكبر بكثير من انعزالية “العودة إلى الرحم” التقليدية التي وصفها شليزنجر.

يمكن تفسير فوز ترامب بهوامش ضئيلة للغاية في ثلاث ولايات على أنه صدفة، وهي نسخة أمريكية من فيروس سياسي أصاب العديد من الديمقراطيات الغربية في السنوات الأخيرة؛ وقد تشير الانتخابات الثانية إلى ما أسوأ بكثير للمراقبين الخارجيين: إما أن النظام معيب بشكل أساسي أو أن الولايات المتحدة قد تعرضت لنوع من الانهيار الأخلاقي. وفي كلتا الحالتين، ستنهي الولايات المتحدة الأمريكية أيامها كزعيمة عالمية.. سوف تغيب، لكنها ستظل قوة عظمى، لكن من نوع مختلف تماماً.

 

قانون الغاب

على الرغم من أن رئاسة ترامب كانت مزعجة بالفعل وأضرت بسمعة الولايات المتحدة، إلا أن النتيجة ستكون أسوأ بكثير وصعبة حتى بالنسبة لأولئك الذين كانوا الأكثر انتقاداً له. وقد يعني ذلك العودة إلى عالم لا قانون فيه غير قانون الغابة – عالم شبيه بفوضى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وأسوأ من ذلك ربما، عالم من الاعتماد الراديكالي على الذات، حيث يتم إضفاء الشرعية على جميع أدوات القوة من خلال أفظع الأسباب، ألا وهي الضرورة، وستكون الدول أكثر ميلاً إلى امتلاك أسلحة نووية والنظر في استخدام الاغتيالات والأسلحة البيولوجية المستهدفة والتخريب الروتيني من أجل تحقيق الأمن، وسوف تنمو جاذبية الأنظمة الاستبدادية.

علاوة على ذلك، ستُضعف الخلافات الداخلية الولايات المتحدة بشدة. إن فترة ولاية ترامب الثانية، التي تستند في جزء كبير منها على قمع الناخبين، ومراوغات الهيئة الانتخابية، والمناورات البارعة للسياسيين الجمهوريين، ستؤول إلى نظام حكم غير مستقر، فالحزب الجمهوري محكوم بالفشل ديموغرافياً، حيث يستمد أكبر دعمه من جزء محدود وهرم من الناخبين. وقد كان هنالك بالفعل عنف ذو دوافع سياسية في الشوارع الأمريكية، ويمكن أن يكون هناك المزيد. وقد لا تحدث حرب أهلية صريحة، ولكن من المعقول تماماً تخيل مهاجمة واغتيال مسؤولين سياسيين من الجانبين – كل ذلك بتشجيع من ترامب المنتصر وخصومه الغاضبين والمتطرفين.

عواقب إدارة ترامب الثانية ستكون أشد صعوبة على التوقعات؛ فمنذ نشأتها، كانت أمريكا “أرض المستقبل”: عمل مستمر، مكان واعد، ومع ولاية ترامب الثانية قد ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها نصب تذكاري للماضي.. ليس دولة فاشلة، بل رؤية فاشلة، قوة هائلة في حالة انحدار أفل دورها.

لقد واجهت الولايات المتحدة مثل هذا التعديل الجذري المحتمل لصورتها من قبل، فقد أدت الحرب الأهلية إلى التشكيك بوجودها ذاته كدولة موحدة، وألقى الكساد الكبير بظلال من الشك على أنموذجها السياسي والاقتصادي. وفي كلتا المرحلتين، كان الرؤساء “الاستثنائيون” يدركون تماماً الحاجة إلى التوجه إلى مستقبل أكثر إشراقاً. وهذا هو السبب في أن بعض التشريعات الرئيسية للرئيس لينكولن ركزت على الانفتاح على الغرب، ولماذا أكد روزفلت للأمريكيين أنه ليس لديهم ما يخشونه سوى الخوف من أنفسهم.

كان شعار ترامب “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. وقد جاءت العبارة الأكثر دلالة من خطاب التنصيب الجنائزي في عام 2017: “المذبحة الأمريكية”. لقد اقتنع ترامب بواقع التراجع الذي قوض كل ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في العالم. رؤيته للعظمة خالية بشكل مذهل من المحتوى، وجاذبيته السياسية تعتمد على الاستياء والخسارة والخوف من الهجرة، وحتى اليأس التام. تعني الولاية الثانية أن الولايات المتحدة ستدخل في أزمة، متعددة الأوجه، يحتمل أن تكون عميقة. لكن هذه المرة، سيكون للبلاد زعيم مصاب بالشلل بسبب نرجسيته وعدم كفاءته، بل وأكثر من ذلك، فهمه السيئ لما أطلق عليه أحد أسلافه الجمهوريين “آخر وأفضل أمل للبشر”.