متى انهارت الإمبراطورية الأنغلو صهيونية؟ يستهدفون ترامب ولكنهم يضربون الولايات المتحدة من الداخل
“البعث الأسبوعية” ــ تقرير العدد
مع انهيار الاتحاد السوفييتي، عام 1991، كان هناك إجماع على مثالية “النظام الليبرالي”، وعلى أن الولايات المتحدة لن تنهار إلا إذا تلقت صدمة خارجية قوية، وأن الجمع بين أفضل آلة دعائية في التاريخ، والغباء الناجم عن ساعات طويلة أمام الآلة، وقبل كل شيء، عن جهاز القمع الفعال، أدى إلى ديكتاتورية شمولية، ديكتاتورية لا تعطي سوى وهم “الديمقراطية”. ولكن، بعد سنوات، في العام 2017، بات منطقياً الحديث عن الانهيار المستقبلي للولايات المتحدة، وعن حالة ذهنية يمكن أن تضع قوة عظمى مفترضة في وضع سيء للغاية، وعن إمكانية انتحار الـ “نومانكلاتورا” الأمريكية، ما يضع الإمبراطورية الأنغلو صهيونية في الدرك الأسفل.. وهذا هو بالضبط ما حدث فعلاً!! فمتى بدأ كل ذلك؟
هناك إجابات عديدة.. البعض يقول أنه بدأ مع مقتل كينيدي، ويشير آخرون إلى كلينتون، الذي بشرت رئاسته بإمبريالية مسلحة استهدفت العالم بأسره، وهـو الرئيس الذي كان شهد “خروج” المحافظين الجدد (كثير منهم كان تسلل بالفعل إلى الحزب الجمهوري في عهد ريغان). ثم كانت هناك تفجيرات 11 أيلول، والحرب الشاملة على الإرهاب، ولكن البداية الحقيقية للانهيار – كما يرى آخرون – كانت في عهد باراك أوباما، الرئيس الضعيف للغاية، والذي فقد السيطرة على بلاده، بل وعلى إدارته الخاصة. ففي عهد أوباما، كان ممكناً معاينة الفراغ في القمة، الأمر الذي أتاح لكل من مكتب الأمن القومي، ووكالة المخابرات المركزية، والبنتاغون.. إلخ، من تطوير “سياسة” خاصة بكل منها، ما أفضى بدوره إلى فوضى عارمة على جبهة السياسة الخارجية. وغني عن القول أن مشاركة الهاربيات، مثل هيلاري كلينتون، سوزان رايس، أو سامانثا باور، لم تساعد!
دونالد يتحمل المسؤولية؟
منذ انتخابه، أصبح من الشائع إلقاء اللوم على دونالد ترامب. وفي الواقع، هناك العديد من القضايا التي ينبغي إلقاء اللوم عليه فيها، ولكن ما يتناساه الكثيرون هو أن كل أخطاء ترامب إنما بدأت تقريباً مع أوباما. وعندما يقول ترامب إنه ورث فوضى رهيبة، فهو محق تماماً، على الرغم من أن ذلك لا يعفيه من المساهمة في الفوضى والانهيار. والحقيقة هي أن الفرق الأكبر بين الإثنين هو أن ترامب لم يبدأ أي حرب حقيقية. لقد هدد العديد من الدول بهجمات عسكرية (وهذا بحد ذاته جريمة بموجب القانون الدولي)، لكنه لم يعط أبداً الضوء الأخضر لهجوم كبير (حاول فقط شن هجمات رمزية وغير فعالة على الإطلاق في سورية)، وهو أحد الرؤساء الأمريكيين القلائل الذين لم يرتكبوا جريمة “العدوان”، وهي أعلى جريمة ممكنة بموجب القانون الدولي، وهي حتى فوق الجرائم ضد الإنسانية أو جريمة الإبادة الجماعية.
خلال سنوات ترامب، حدث ما لا يصدق: في حين كان ترامب وإدارته مشغولين بتدمير الإمبراطورية من الخارج، وضع الديمقراطيون كل طاقتهم ومواردهم لتدمير ترامب. ومع ذلك، وعلى سبيل المثال – نقلاً عن الكاتب الروسي زينوفييف – “استهدفوا ترامب، لكنهم ضربوا الولايات المتحدة” (اقتباس زينوفييف يتعلق بما يسمى مناهضة السوفييت، والذي يمكن ترجمته على أنهم “كانوا يستهدفون الشيوعية، لكنهم ضربوا روسيا”. ما حدث بعد ذلك بالضبط هو ما لم يمكن تخيله: انتحرت النخب الحاكمة الأميركية بشكل جماعي. وإذا سلمنا بأن قرار الانخراط في هذا السلوك الانتحاري قد اتخذ في مرحلة ما خلال سنوات أوباما، فإن ذلك يقود إلى التساؤل: هل الإمبراطورية ميتة بالفعل أم أنها لا تزال تحتضر؟
إمبراطورية تحتضر
علينا أن نتذكر، مثلاً، كيف رد الإيرانيون، عقب استشهاد الجنرال قاسم سليماني في غارة أمريكية بطائرة بدون طيار، في 3 كانون الثاني 2020، باستخدام الصواريخ لمهاجمة القواعد الأمريكية في العراق. ووفقاً للجانب الأمريكي، لم تقع سوى اصابات طفيفة، وهو المحتمل جداً حيث أن الإيرانيين حذروا الولايات المتحدة من خلال عدة أبواب خلفية مما يعتزمون القيام به. وقد استخدم ترامب ومؤيدوه هذه الحجة ليقولوا أن ردة الفعل الإيرانية كانت عرجاء وغير فعالة ويمكن تجاهلها تماماً.
حقيقة، فإن الإدلاء بمثل هكذا تصريحات يعادل التوقيع على شهادة وفاة الإمبراطورية!!
فقد أظهر الهجوم الإيراني المضاد أن الصواريخ الإيرانية كانت أكثر دقة بكثير مما كان معتقداً. في الواقع، أثبت الإيرانيون أنهم قادرون، بدقة كبيرة، على إطلاق رأس حربي في أي مكان تقريباً في الشرق الأوسط.
هناك العديد من المنشآت العسكرية الأمريكية المماثلة في الشرق الأوسط، بما في ذلك العديد من المباني التي تضم مئات العسكريين الأمريكيين، لقد استخدم الإيرانيون صواريخهم لضرب العم سام حيث يؤلمه، لكنهم قبل كل شيء أظهروا قدرتهم على التسبب بالآلاف من الضحايا الأمريكيين في غضون دقائق قليلة.
وبالطبع، هناك قوة إيرانية أخرى لا يمكن إنكارها، وهي القدرة على تدمير أي منشأة غازية أو نفطية في المنطقة على الفور: الآبار، ومحطات المعالجة، والمصافي، كما أن لديهم خيار إغلاق مضيق هرمز، وحتى مهاجمة سفن البحرية الأمريكية، وربما بما في ذلك سفن الشحن.
يعيش الإيرانيون، مع التهديدات الأمريكية، منذ العام 1979، وهم معتادون عليها. وليس هذا فحسب، بل هم يعرفون تماماً أنها تهديدات لا معنى لها. وتعيش سورية هذا التهديد بدورها منذ العام 1976، ويمكن للولايات المتحدة أن تفعل بالبلدين ما فعله حلف شمال الأطلسي بصربيا خلال حرب كوسوفو (1998-1999)، أي أن تقتل المدنيين وتدمر البنية التحتية لمعاقبة الشعب على دعمه للحكومة “الخطأ”، تلك التي لا تحظى برضا الولايات المتحدة. ولكن إذا فعل العم سام ذلك، فإن النتيجة ستكون هي نفسها: السوريون والإيرانيون سيعيدون بناء بلدهم.
أخيراً، يدرك الرؤساء الأميركيون ومساعدوهم جيداً حقيقة الوضع الحالي للولايات المتحدة. عسكرياً: إنه ببساطة الجيش الذي لا يستطيع كسب الحرب، حتى في الصراعات البسيطة، والجيش الذي يستميت باستنزاف جوهر قوته عبر أيديولوجيات ليبرالية مجنونة، والجيش الذي أصبح أسطوله البري بالياً بأكمله، والذي أنفقت قواته الجوية مبالغ فاحشة تماماً لإنشاء طائرة مقاتلة يفترض أنها من “الجيل الخامس” ولكنها، من نواح كثيرة، أقل شأناً من بقية الطائرات الأميركية!
خلاصة
لا تعدو المحاججة القائلة بأن الولايات المتحدة لم تنتقم لأنها لم تهتم، أو أنها لا تهتم لأن “يمكننا أن نتفتتها” كونها هراء متحضراً لا علاقة له بالواقع. لكن، لماذا لم تنتقم الولايات المتحدة؟ ببساطة لأن العم سام لا يملك ما يلزم لمواجهة إيران، ولا يستطيع حتى مواجهة فنزويلا (!)، وهي دولة تقع على أبواب الولايات المتحدة.
لقد ماتت الإمبراطورية في اليوم الذي ضرب به الإيرانيون المنشآت الأمريكية، ولم تفعل الولايات المتحدة أي شيء على الإطلاق. في الواقع، منذ ذلك الحين، ما الذي رأيناه:
العراقيون يطردون القوات الأمريكية ببطء ولكن بثبات إلى خارج العراق، وقد زاد عدد هجماتهم ضد القوات الأمريكية بشكل حاد، لا سيما ضد مجمع الأنفاق الضخم المسمى “المنطقة الخضراء”.
وقد فشلت الولايات المتحدة فى تجديد العقوبات على إيران فى مجلس الأمن الدولي، وأعلنت روسيا بالفعل أنها مستعدة لبيع اسلحة الى إيران. ويمكن أيضاً التعويل على الصين في سوق الأسلحة الكبير هذا.
كما تتراجع الولايات المتحدة في سورية، حيث أصبحت الهجمات المناهضة للولايات المتحدة أكثر خطورة، كما أن الاشتباكات المنتظمة مع القوات البرية التابعة لفرق العمل الروسية باتت أيضاً ظاهرة خطيرة للغاية.
وفي اليمن، انتصر الحوثيون في الحرب وتغلبوا على مملكة آل سعود والولايات المتحدة.
وفي أفغانستان، بقيت الولايات المتحدة، ومعها “تحالف الخاسرين”، لفترة أطول من السوفييت، ولم تحقق سوى الهزيمة الكاملة والمذلة. إن التناقض بين كفاءة الجيش السوفييتي الأربعين، المجهز تجهيزاً ضعيفاً، وكفاءة القوة الاحترافية الأمريكية، المجهزة تجهيزاً عالياً (ولكنها أيضاً سيئة القيادة)، أمر مدهش تماماً على جميع المستويات، ولكن الأكثر دلالة هو البنية التحتية التي بناها السوفيات فعلياً في أفغانستان (حتى المرافق التي لا تزال الولايات المتحدة تستخدمها كل يوم!).. العم سام دمر كل شيء، ما عدا تجارة الأفيون!!
بعبارة أخرى، كل شيء يسير بالضبط وفقاً للخطة التي تهدف إلى طرد الولايات المتحدة تماماً من الشرق الأوسط، وهو أمر لا يمكن تصوره في الوقت الراهن، ولكن قائمة الأشياء التي “لا يمكن تصورها” تحدث.
فعندما هاجمت جورجيا قوات حفظ السلام الروسية في تسخينفال، كان هناك أيضاً عدد محدود من الضحايا، ولكن روسيا شنت هجوماً فورياً مضاداً، وهزمت الجيش الجورجي خلال ثلاثة أيام.. وكانت الرسالة بسيطة: مهاجمة قاعدة روسية، أو قتل جنود روس، سوف يواجه بقوة. وفي كل مرة يسقط فيها جندي روسي في سورية، يرد الروس بصواريخ قوية وغارات جوية. وفي حالات أخرى، قتلت الوحدات الروسية متزعمي عصابات تكفيرية. وقد “استوعب” الجميع الدرس، بمن فيهم الأتراك الذين فشلوا في إجبار الروس على التوقف عن القضم التدريجي لمناطق السيطرة التركية.
ولكن روسيا لا تملك الرغبة في أن تصبح إمبراطورية، أو حتى نوعاً من قوة عظمى، فقد عانوا لأكثر من 300 سنة من مثل هذه الحالة السامة، غير أن آخرين، على شاكلة هيلاري الغبية، وبريجنسكي الأشد غباء، يعتقدون أن روسيا تريد “إعادة بناء الاتحاد السوفييتي”، في حين أن سياسة بوتين مصممة في الواقع لتفكيك الارتباط عن المحيط الروسي السابق الذي كان يستنزف موارد روسيا الهائلة، ناهيك عن حلف وارسو بموارده الكثيفة وغير لمجدية. كل ما يريده الروس اليوم هو أن يؤخذوا على محمل الجد، وأن يعاملوا باحترام، ليس كقوة عظمى، ولكن ببساطة كقوة عظمى ذات سيادة حقيقية.
ولنقارن ذلك كله مع المزيج الفريد من جنون العظمة، وحب الذات النرجسية، والجهل الهائل للمسؤولين الأمريكيين، لنتأكد على الفور أن الإمبراطورية لم تعد تحتضر، بل هي ميتة بالفعل.
ما هي الخطوة التالية؟
على اختلاف الظروف، لن تكون الإدارة المقبلة قادرة على عكس هذا الاتجاه، وإحياء الإمبراطورية بأعجوبة، فالإمبراطوريات لا تنهض مجدداً، وما إن أن تفقد الإمبراطوريات زخمها، وقبل ذلك، مصداقيتها الأيديولوجية، حتى ينتهي الأمر، وتتحول إلى جثة.. جثة لا تزال ساخنة، ولكنها ميتة ومنتفخة ونتنة.
هذا لا يعني أن نتيجة الانتخابات لن تكون مهمة، على الأقل بالنسبة لمستقبل الولايات المتحدة نفسها. ولكن الأمر ببساطة هو أن التصويت في انتخابات الرئاسة سيكون إما للحفاظ على القانون والنظام أو للعدمية الكاملة، فالإمبراطورية ميتة، وسوف تكون وفاتها علامة ولادة جديدة للولايات المتحدة كبلد “طبيعي”، وحتى ذلك الوقت، يمكننا أن نكون متأكدين من أن هذه الإمبراطورية الشريرة قد ماتت أخيراً، حتى لو لاحظ ذلك عدد قليل جداً.
إذا مات الجهاز العسكري للإمبراطورية الأنغلو – صهيونية، فإن الجهاز الاقتصادي، بدولاراته وعقوباته، لا يزال على قيد الحياة، حتى في ظل عملية التنفس الاصطناعي للاحتياطي الفيدرالي. ولهذا السبب تستخدم الولايات المتحدة الآن السلاح الاقتصادي فقط، وعندما يتم الإعلان رسمياً عن وفاة هذا العضو الاقتصادي، يمكن للعالم أن يعتبر نفسه بمنأى عن براثن الإمبراطورية.