الوطن في أدب الاغتراب.. مقبرة العظماء أنموذجاً
يتطرّق كاتب رواية “مقبرة العظماء” في روايته إلى المكان الذي كان صغيراً وأصبح كبيراً في فضاء الرواية، وامتدّ ليشمل العالم بأسره مع شخصيات كبيرة كان لها دور في التاريخ، وتحت عنوان “الوطن في أدب الاغتراب” أقام فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب ندوة عن رواية “مقبرة العظماء” للمغترب مقبل الميلع، أدارها الروائي محمد الحفري.
مقبرة العظماء
زمن الرواية هو القرن العشرون، وعنها قال د. عبد الله الشاهر: لم تشهد البشرية إلى يومنا هذا، قرناً مثل القرن العشرين، قرن التحولات العاصفة الَّذي تغيّرت فيه الأشياء وبدت على غير حالها، ونمت فيه الأفكار حتى وصلت إلى أوج طغيانها، فتبدّلت الجغرافية والأفكار والسياسات والعلوم والإيديولوجيات والثقافات والعنوان تبدلاً أدى إلى حروب وكوارث، وإلى علوم فتحت آفاقاً، إنه القرن الأكثر رهبة حمل في أحشائه كل الخير.
أما المكان في رواية “مقبرة العظماء” فهو عبارة عن مقبرة ذات سور، ويضيف الكاتب ساحة روايته الَّتي لا تتجاوز حدود مقبرة، لم يتركها مفتوحة بل أحاطها بسور ذي دلالة واضحة في ذلك الزمان المخيف، وما بين ضيق المكان واتساع الزمان تأتي لعبة الراوي مقبل الميلع. بينما الشخصيات عبارة عن قبور وشواهد، هذه القبور الَّتي انتصبت شواهد حدث وسط مقبرة تشكّل أبطال الرواية، انتصبت شواهدُها لتعلن وجود عدمها ونتائج فعلها، فكانت حركة القبور مادة الرواية الخصبة. وذيب المرزوقي الحيّ الوحيد والشاهد الحاضر على شواهد القبور، هو الشخصية الوحيدة الحية الَّتي تتحرك بين الأصوات، إنه حفار القبور. والجمجمة المتحركة التي ابتدعها الكاتب وأودع بداخلها أضعف المخلوقات والتي من خلالها حرك بحرفية أفكار روايته جاعلاً منها حاملاً وفزاعة.
رواية “مقبرة العظماء” مبنيّة على خمسة مرتكزات أساسية جال فيها الراوي جولته الواسعة على مدى أربعمئة وثمانٍ وأربعين صفحة، جاءت مبوبة، وقراءة سريعة لا تفي بالغرض، ولا تعطي الرواية حقها من الدراسة. فالرواية مغرية في مادتها، جاذبة في بناء مرتكزاتها، شيّقة في أسلوبها، متشعّبة في معلوماتها، تتحدث عن التاريخ وليست تاريخاً، وتتعمّق في السياسة ولا تنتمي إليها، وتتوغل في الحروب ولا تخوضها، وتقارب الفلسفة ولا تباشرها، وتعرض الإيديولوجيات ولا تقرّها، إنها خلطة من هذا كله بنكهة السرد الَّذي يشي بالواقع ولا يلامسه، ويذكِّر بالحدث ولا يقرّره، هذه الخلطة هي سر جمالية أسلوب مقبل الميلع الروائي، فأخذت جمالها من وصف عظمائها الذين كانوا أدوات فعل، وحوامل فكر، بما لهم وما عليهم، وهنا يُحسب للكاتب قدرته على احتواء ضخامة الحدث ورصده من خلال عمل روائي متشعّب.
رواية أدبية
بدوره قال الكاتب عماد نداف: متعة كبيرة أن تعود إلى التاريخ، وتأتي بشخصياته لتحاسبها عمّا فعلته، وتكون المتعة في ذروتها عندما يكون هؤلاء المستحضرون عظماء أو قادة أو ذوي قرار تاريخي مؤثر أو فجائي. ورواية “مقبرة” العظماء فعلت ذلك لكي تثير مجموعة من الأسئلة.
الرواية تتحدث عن القرن العشرين، انطوت على أحداث كبيرة ومفاصل تاريخية حاسمة بدءاً من الحرب العالمية الأولى وأفول الإمبراطورية العثمانية، مروراً بالحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وصولاً إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، وفي هذا الامتداد الزماني نقف عند حروب أخرى كحرب كوريا وفيتنام وحرب البوير وحرب حزيران وحرب تشرين وحرب الخليج وغيرها. وأضاف نداف: جمع الكاتب أفكار ومواقف بعض قصص من سمّاهم بعظماء القرن العشرين في مقبرة، لمحاورتهم واستنباط آرائهم للوقوف على الحقيقة. و”مقبرة العظماء” كما يراها الكاتب، ليست رواية تاريخية، هي رواية أدبية، زمانها القرن العشرون، وبناؤها يقوم على أهم الأحداث الَّتي توّجت ذلك القرن، وفي ذلك خلل يمكن اكتشافه بعد الانتهاء منها، يمكن القول إنها رواية سياسية بامتياز، زمانها مفتوح على التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل، وبناؤها يقوم على البحث عن السياسة الَّتي تطفو على تاريخ الحروب والقتل لتحمي البشر. والحقيقة، نحن أمام رواية سياسيّة تستلهم التاريخ برؤية واعية لتفاصيله ووقائعه الكثيرة الَّتي نحتاج إلى أرشيف كامل لتبويبها وتحميلها لعملية السرد وبناء الشخصيات، ولو أنه استبدل الشخصيات الواقعية بشخصيات موازية رمزية لكان القارئ أمام رواية أدبية من نوع خاص تضاف إلى النوع التاريخي الَّذي ظهرت منه نماذج كبرى، لكنه أراد أن يجمع المتناقضات لنتعرّف نحن عليها ونصدر حكمنا التاريخي.
جُمان بركات