ملتقى “فن الطريق” أشعل شمعة
أن يكون الفنّ “على الطريق” ليست بالحال الجديدة على الفنون عموماً، بل هي الحالة الطبيعيّة، فأهم المسرحيات العالمية عُرضت على الطريق بمعناه المجازي هاهنا، موليير مثلاً قدّم أهم عروضه المسرحية في الأسواق الشعبية، “أبو خليل القباني” كذلك الأمر، الشعر ديوان العرب، كان له كرنفال سنوي عُرف بـ: “سوق عكاظ”، العروض السينمائية في الهواء الطلق، المعارض الفنية المفتوحة بأنواعها.
اليوم تعود هذه الظاهرة بقوة إلى أحد الشوارع الفرعيّة في أحد أهم الأحياء الدمشقية وأكثرها ازدحاماً (حي الشعلان) عبر فعاليات ملتقى “فن الطريق” الذي دعا إليه ونظّمه ويشرف عليه الفنان مصطفى علي.
الملتقى الذي يقيمه غاليري “مصطفى علي” بالتعاون مع محافظة دمشق، يقدّم مجموعة منوّعة من الخيارات الفنيّة للجمهور العفوي، إن صح الوصف، وبمختلف فئاته العمرية، منها: رسم غرافيتي، رسم على الجدران، تصوير زيتي، إكريليك لمجموعة من الفنانين الشباب، إضافة إلى عدة أنشطة فنية موزّعة على أيام الملتقى، نجح بإعادة النشاط الحيوي الذي يتميّز به هذا الحيّ، فشوارعه وأزقته التي كانت لا تخلو من ازدحام الناس ليل نهار، مرّت بها عاصفة الكورونا، ثم عواصف الغلاء وارتفاع الأسعار المتلاحقة، الأمر الذي نال من روح المكان ومزاجه العام، إلا أن الصخب والفرح الذي ينتج عن التفاعل المباشر مع ما يُقدّم من فنون هناك، ينقل عدوى الفرح بلا وسائط، ففي قلب الحيّ وفي أحد الشوارع الجانبيّة منه، سوف يشعر العابر مصادفة في المكان وكأنّه خرج من نفسه ومن الزمان والمكان، وها هو يلج عوالم ألف ليلة وليلة السحرية، موسيقا ورقص، غناء، لوحات تشكيلية يمكن أن تُشم رائحة الألوان الطازجة التي تُمزج لتشكّلها، شباب مفرحون رغم الإرهاق البادي على الملامح الراضية، يقدّمون بكل رضا أجمل ما لديهم، يُضيفون أنخاب الفرح والبهجة للجميع، ولو لوقت قليل وسط كل هذا الأسى وما تمرّ به البلاد والعباد من أوقات عصيبة وصعبة، وهذا الأمر هو أحد أهم دوافع إقامة الملتقى حسب “مصطفى علي”، الذي يكاد لا يهدأ، يخبرنا عن بعض النقاط الأساسية: هل ما يُقام هو فعالية عابرة؟ أم مشروع له خطواته المستقبلية؟.
عن الزمان والمكان والمناسبة والهدف فيقول: “أنا من المؤمنين بالدور الفعّال للفن في الحياة، وفي قدرته، عدا عن صناعة الفرح والمتّعة وإطلاق الطاقة الإيجابية التي تخلقها الفنون في النفس، على أن يكون أداة حقيقيّة في التغيير والمشاركة في إعمار النفوس أولاً المحتاجة وبشدة لذلك، خصوصاً بعد ما مررنا ونمرّ به من أوقات صعبة وقاسية على الجميع؛ اختيارنا للمكان جاء من طبيعة المكان نفسه وطبيعة الحياة التي تروح وتجيء بين شوارعه وأزقته، فحيّ الشعلان يتوسّط دمشق، قريب نسبياً من المناطق المحيطة، فيه حياة كاملة لا تهدأ، إنه من الأحياء التي يأتيها الكثير من الأشخاص، ومن مختلف المناطق، وهؤلاء هم الشريحة المستهدفة لما نقدّمه بشكل خاص، أي الشريحة الأوسع والتي لا صفة عمرية أو فكرية أو اجتماعية تحدّدها، أشخاص من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية والمشارب الفكرية”.
شوارع دمشق الشهيرة ليس هذا الشأن بالجديد عليها، إلا أنها ليست المناطق الوحيدة في العاصمة، ماذا عن العشوائيات أو ما يُسمّى بأحزمة الفقر؟ عن هذا قال علي: “بالتأكيد هذا صحيح، وأنا أتمنى ذلك، ولكن هذا بحاجة إلى دعم على المستوى اللوجستي والمادي، المشروع مكلف، محافظة دمشق قدّمت المكان وبعض الدعم المادي، وبالتأكيد خيارنا بالذهاب مفتوح إلى أي مكان، بعد أن تتمّ الموافقات الرسمية لذلك، إلا أن الشيء المهمّ في الموضوع، أن الفعالية شجعت أشخاصاً آخرين لتقديم الدعم، وهذا يجعل من فرصة تطوير المشروع وتوسيع مساحة وجوده قائمة، حقيقة نحن نحتاج لهذه النوعية من المشاريع الفنية التي تذهب إلى الناس لتكون بينهم”.
“الفنانون أغلبهم من الشباب” يتابع مصطفى علي: “وهؤلاء بحاجة إلى فرصة الظهور والتفاعل مع الجمهور، وهذا الأمر تحقّقه هذه الفعاليات، هناك أعمال عديدة لفنانين شباب بيعت، وهذا يقوي عزيمتهم وإيمانهم بما يصنعون، يحقّق لهم التقدير وإثبات الذات، وهم بأمسّ الحاجة لهذا”.
وبعيداً عن كونه المشرف على الفعالية، يفوز أيضاً بنصيبه من الفرح باعتباره من الجمهور الكبير للفعالية، فيقول: “بداية أردت أن أُسميه مهرجان الفن، مهرجان البهجة، لكنني أردت أن أرى ردود الأفعال من الجمهور أولاً، وكما ترى، هذه الحالة العامرة بالحياة رغم كل ما نحن فيه، وهذا الحضور المبهج، هو أهم وأعظم ما يطمح إليه الفن والفنان، بالمناسبة أنا “حاطط عيني على حيط” لأكون مشاركاً أيضاً في هذه الفعالية كفنان”.
تجلسُ خلف لوحتها بتعب بادٍ على محياها، إنه دورها لتكون من الجمهور، بعد أن قضت اليوم كلّه في العمل على إحدى لوحاتها، ورغم أنها لم تزل طالبة في كلية الفنون الجميلة، إلا أن مشاركتها كفنانة لها ما لها في نفسها، عن هذا تقول نور الملوحي: “من المهمّ جداً للفنان أن يكون بين الناس وفي أمكنتهم، فهم منهل لا ينضب للأفكار، وهذه المشاركة في الملتقى، أعطتني طاقة عالية من الإحساس بالمكان والحياة فيه، من الناس الذين لا يزالون على حبهم للفنون رغم كل نوائبهم، حتى أنها وسّعت مداركي الحسيّة وأعطتني أفكاراً لم تكن لتخطر في بالي من قبل، وأتمنى فعلاً ألا تكون فعالية عابرة، بل مشروع فني لشارع دائم مخصّص للفنون وفي كل المحافظات”.
بضعة أصوات موسيقيّة تقطع الكلام، ففرقة “مكان” ستقدّم وصلة غنائية وموسيقيّة بعد قليل، توضع الرتوش الأخيرة على الصوت وتعديل “الدوزان” للآلات الموسيقيّة على أوجه، في المكان، كانت الزميلة الإعلامية ألمى كفارنة وشقيقتها الممثلة الشابة ريام كفارنة من جمهور الفعالية، تحكي ألمى عن علاقتها بالفنان مصطفى علي وبمشروعه: “هذه الفعالية هي جزء من مشروع بدأه النحات العالمي مصطفى علي منذ مدة ليست بالقليلة، على المستوى الشخصي أنا ممتنة لهذا الفنان، فبداية وعيي على الحركة الثقافية والفنية في البلد، كان لمشاريعه الفنية أن عرفتني عليه، كنت لا أزال في المدرسة عندما كان هذا الفنان يذهب بفنه نحو الناس حيث يوجدون، منها المسير الذي قام به والعديد من الفنانين، إقامته لعدة معارض في يوم واحد، مع تقديم دعمه الكامل من خلال الغاليري الخاص به لأي مشروع ثقافي أو حالة فنية، وهو من الفنانين الذين يذهبون للناس، وهذا ما نحن بحاجة إليه، هذه الفرحة على وجوه الحضور هي الروح الحقيقيّة للسوريين، فهم أهل الفن، واليوم نحن محتاجون لهذا النوع من الفعاليات الفنية في كل مكان من البلاد، بكل الألم الذي نحيا تحت وطأته”.
الممثلة ريام كفارنة المنسجمة مع الموسيقى التي بدأت فرقة “مكان” بعزفها، قالت: “أنا اليوم هنا أولاً لأدعم هذه التظاهرة المفرحة والمهمّة للفنانين وللناس، كما أنني هنا لأستمتع بهذه الحالة الفنية الراقية التي نحن بحاجة لها فعلاً”. وكان لا بدّ من سؤالها عن مشاركتها هذا العام في الأعمال الدراميّة لتقول: “سأكون موجودة في الجزء الثاني من سوق الحرير، وهناك عدة مشاريع أخرى لكنني لم أحسم خياراتي حيالها بعد”.
تمّام علي بركات