خيارات الصين في مواجهة أمريكا
إبراهيم أحمد
الصراع الأمريكي- الصيني ليس وليد اللحظات التي ظهر فيها الوباء العالمي القاتل المعروف بجائحة كورونا، وإنما تشير المعطيات إلى أن التنافس بين القوتين العظميين بدأ منذ عشرين عاماً على الأقل. في الماضي حذرت مراكز الأبحاث الأمريكية من أن الصين ستتفوق على أمريكا خلال ثلاثين عاماً إذا استمر النمو الاقتصادي الصيني بنفس الوتيرة.
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية تركيع الاقتصاد الصيني من خلال إتباع مجموعة من الإجراءات والقيود الاقتصادية، لكنها فشلت إلى حد الآن. وكل الإدارات الأمريكية السابقة حاولت كبح جماح المارد الصيني، لكن إدارة ترامب كانت هي الأكثر تشدداً في هذا المضمار، حيث سعت إلى زيادة التعرفة الجمركية على البضائع الصينية، لكن ذلك الإجراء كبد المستهلك الأمريكي أعباءً إضافية ولم يؤثر على وتيرة الإنتاج والنمو الاقتصادي الصيني. بالإضافة إلى ذلك سعت الإدارات الأمريكية إلى التلاعب بأسعار النفط العالمية من أجل الإضرار بالاقتصاد الصيني لكن ذلك لم يجدي نفعاً.
فعلى امتداد العقود التالية لسياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، ظلت السياسات والمقولات الأمريكية تجاه الصين تتغيّر مع تغير قدرات وقوة الصين، من الثقة في قدرة النموذج الأمريكي على تغيير الصين، إلى مهاجمة الصين بسبب التلوث الناجم عن التنمية الصينية والتنبيه من الاستعمار الجديد، ثم إلى تعديل مركز الإستراتيجية العسكرية الأمريكية نحو آسيا المحيط الهادي والقلق من النمو الاقتصادي السريع للصين. وأخيراً إلى ضربات ترامب المباشرة للاقتصاد والتقنية الصينية واتهام الصين بالتأثير في قرارات بعض المنظمات الدولية، والتخوّف من تهديدها لمكانة أمريكا العالمية. وهكذا ظلّ حجم الصين في عين الولايات المتحدة الأمريكية يكبر شيئاً فشيئاً من دولة ضعيفة بإمكان أمريكا تغييرها إلى منافس و”عدو”، يهدد الريادة الأمريكية.
في عام 2011، صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، قائلة بأن أمريكا قد انشغلت في مقاومة الإرهاب في الشرق الأوسط، بينما نمت الصين بسرعة. هذا التفاجؤ بنهوض الصين، سواء كان فعلاً بسبب انشغال أمريكا في الشرق الأوسط، أو بسبب تقليل أمريكا من قدرات تطور الصين فإنه لا يغير من حقيقة أن 10 سنوات تعدّ شيئاً كثيراً بالنسبة للصين، ويمكنها خلالها أن تحقق المعجزات. فأثناء العقد الأول من الألفية الحالية، تضاعف الناتج الإجمالي الصيني 6 مرات، وقد ترافق ذلك، مع نمو واضح في القدرات الشاملة للصين. لذلك منذ إدارة الرئيس باراك أوباما، بدأت أمريكا تنفيذ سياسة احتواء ضد الصين. وقد تجسد ذلك أساساً في تعديل مركز الإستراتجية العسكرية من الشرق الأوسط نحو آسيا المحيط الهادي، واتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادي (تي بي بي)، التي طمحت إلى طرح قواعد جديدة للتجارة تخدم الشركات والعمالة الأمريكية بشكل أفضل، وتستثني الصين، إضافة إلى عرقلة عمليات الاستحواذ التي تقوم بها الشركات الصينية للحصول على التكنولوجيا الغربية. لكن في ذات الوقت، كان خيار إدارة أوباما يميل إلى تفادي المواجهة المباشرة مع الصين. واعتماد سياسة احتواء طويلة المدى تركز على التنسيق مع الحلفاء، ومحاصرة الصين بمعايير وقواعد تجارية جديدة. وتهدف في آخر المطاف إلى ترويض الصعود الصيني، ودفعه نحو قبول التصور الأمريكي للنظام الدولي والمصالح الأمريكية طويلة المدى. وقد كان ذلك نابع من أحكام أمريكية خاطئة وتقليل من شأن قدرات الصين أيضاً. حيث تذكر هيلاري كلينتون في مذكراتها، خلال استرجاعها لزيارة أجرتها إلى الصين في عام 2009. بأن الصين مجرّد قوة عسكرية متزايدة، ونمو اقتصادي سريع، ولا تمثل تحدياً لمكانة أمريكا، وأن أمريكا بإمكانها أن تتعامل مع الصين من موقع القوة. ومع وصول ترامب إلى السلطة، وسيما السنتين الأخيرتين، تحوّلت سياسة الاحتواء الأمريكية من “النفس الطويل”، إلى التعجل والمواجهة المباشرة من خلال حرب تجارية وحصار تقني. حيث بدت إدارة ترامب وكأنها تسارع الزمن في توجيه الضربات المتتالية للاقتصاد والشركات الصينية، محاولة استغلال التفوّق الأمريكي الحالي لفرض الشروط الأمريكية الضامنة لاستمرار التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الأمريكي، أمام التقدّم الصيني السريع في هذين المجالين. وهو ما جعل البعض يصف سياسة ترامب بالضربة الاستباقية “الآن أو إلى الأبد”. أي أنه إذا لم تتمكن أمريكا من وقف التقدم التكنولوجي الصيني اعتماداً على تفوقها النسبي في الوقت الحالي، فإنها لن تستطيع فعل ذلك مجددا.
وكما هو معروف للقاصي والداني أن أمريكا ترى في الصين منافساً اقتصادياً قوياً، ولن تسمح لها بتجاوز الخطوط الحمراء، لذا تلجأ لمعاقبة بكين بكل ما يمكنها، كما أن أمريكا في عدائها مع الصين تشن حرباً معلنة، خلافاً لما جرت عليه العادة مع خصومها، إذ كانت تتبع معهم حرباً باردة، ولعل هذا يظهر مدى القلق الذي تشكله بكين لواشنطن، ويطرح في الوقت ذاته سؤالاً حول مدى قدرة إدارة ترامب على رد الفعل الصيني في حال نفد صبر بكين تجاه السياسة الأمريكية العدائية نحوها، إذ إن الصين أكدت أكثر من مرة بأن سياسة أمريكا تجاهها غير صحيحة، وأنها قادرة على الرد، والتعامل بالمثل. ولم تكتف الإدارة الأمريكية باستفزاز الصين عبر اتهام (هواوي) بالتجسس لمصلحة الصين، ومعاقبتها بناء على ذلك، بل لجأت إلى استفزاز آخر، عبر حظر منصتي “تيك توك” و “ويتشات” الصينيتين، متذرعة بأنهما يشكلان تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وعلى الرغم من أن خبراء أمريكيين عدة في مجال الأمن السيبراني، أكدوا عدم صحة ادعاءات الإدارة الأمريكية، فإن ترامب أصر على قراره بحظر المنصتين الصينيتين، ساغياً إلى زيادة ضغوطه على بكين، التي يعدها بأنها تقارعه في ميدان التجارة العالمي. لكن في الوقت ذاته أضرار الحظر لن تلحق بالصين فقط، بل بأمريكا أيضاً حيث أكد الكثير من الخبراء أن حظر “ويتشات” يضر بعدد كبير من الأمريكيين، والصينيين المقيمين في الولايات المتحدة، وبالشركات التي تتعامل مع الصين، إذ يعد هذا التطبيق ضرورياً للاتصالات بين كل هؤلاء.
الحرب التكنولوجية تجاه الصين هي إحدى الوسائل التي تتخذها واشنطن للضغط على بكين، لكنها ليست الوحيدة إذ تعمل إدارة ترامب على أكثر من صعيد، حيث فرضت عقوبات على كاري لام رئيسة السلطة التنفيذية في هونغ كونغ ، وعشرة مسؤولين آخرين في المنطقة، وهو ما وصفته الصين بأنه تصرف “وحشي وغير منطقي”، الأمر الذي سيفتح الباب على سجال سياسي جديد بين أكبر اقتصادين في العالم.
على الرغم من أن الصين أكدت أكثر من مرة رغبتها في بناء علاقات طيبة مع أمريكا، وأنها لن تدخل معها في تنافس اقتصادي، فإن أمريكا تحاول جاهدة إزاحة الصين من طريقها، فقد استنفر ترامب في الوقت الحالي، كل قدرات التفوق الأمريكي من أجل وقف التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الصيني، والمحافظة على الريادة الأمريكية في العالم. ورغم أن هذه السياسات تأتي في ظل تفوق أمريكي نسبي عن الصين. لكن ميزان القوى بين الجانبين، لم يعد على شكل قوي وضعيف الأمر الذي يدفع للحديث عن احتواء وإيقاف تقدم الصين الاقتصادي والتقني. وإنما قد تحوّل إلى ميزان التنافس، ولا يمكن للمنافسة إلا أن تؤدي إلى مزيد من التطور. وهو ما يسمح بالتوقع بأن التنافس الصيني الأمريكي سيدفع نحو المزيد من التطور العلمي والتكنولوجي في العالم خلال المستقبل، والتنبؤ عن صين أكثر قوة، وليس أكثر ضعفاً. وبأن الضغوط الأمريكية ستزيد من تصميم الصين على تطوير قدراتها الذاتية.