الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

زمن المؤذيات

عبد الكريم النّاعم

قال صديقه وهو بين حالتي الانفتاح والانغلاق: “لقد اقتربت أيام الربيع، وأنا أغبط أهل الأرياف المشجّرة، الذين يعيشون قرب الأشجار، لقد حُرمنا من هذا، فهم على الأقلّ ينتقل إليهم شيء من ذلك التفتّح الإيجابي الذي تبثّه الأشجار المُزهرة، ونحن هنا في هذه الشوارع الكالحة ما نكاد نعرف إلاّ هُباب السيارات، والمناظر المؤذية”.

حرّك رأسه شبه موافق، وعلَتْ ملامحه موجة من الحزن العميق، وقال: “بعض ما قلتَه صحيح، وثمّة بعض آخر يمكن أن يكون باعثه التّمنّي، أو هو من خزين قديم في الذاكرة، فحتى الريف يا صديقي لم يعد كما هو، كانت الأشجار تتفتّح فيتفتّح الناس معها بالألفة، والعطاء، والخير، ومساعدة مَن يحتاج، الآن اختلف الأمر، تتغيّر نفوس العباد، فيتغيّر حتى عطاء الأرض.. لقد حرّك كلامك في نفسي أعماقاً مضطربة، أنا الذي لم أعد أعرف شيئاً عن الطبيعة إلاّ من خلال التّذكّر، وعلى الرغم من هذا الفالق، فأنا في لُجّة زحام المؤذيات، رغم جلوسي في بيتي”.

قاطعه: “هلاّ فصّلتَ قليلاً، فقد أثرتَ رغبتي في معرفة التفاصيل”؟.

أجابه: “من خلال المرّات القليلة التي أخرج فيها من البيت لظرف لا يمكن تجاوزه، كانت السيارة التي تقلّني تمرّ من أمام واجهات زجاجيّة كبيرة، فيها كلّ ما تشتهي النفس، وتلذّ العين، فأتساءل: كم عدد الذين يستطيعون الجلوس في هذه الأماكن؟ وكم عدد الذين يستطيعون الشراء؟ فينغلق الأفق، وتكفهرّ سماوات روحي، وتنطفئ أزرار التّفتّح، فالآفاق كلّها، إنْ لم تكن مساعدة على تفتّح الإنسان، والذي تفتّحه الأوسع أن يكون مكرَّماً، غير محتاج، غير خائف.. هذه الآفاق تصبح قضبان سجن لا يرحم.

أفتح الـ”يوتيوب” من باب طلب تسلية ما، فتُطالعني شوارع بلد عربي فسيحة، وعلى الجانبين يقف الناس مزدحمين يصفّقون تصفيقاً راقصاً، وهم يتمايلون مع خطوات “إليسا”، فقد جاءت لزيارة بلدهم فاستقبلوها بهذا الحشد، فأشعر بنصل سكين انغرس عميقاً في قلبي، وأتساءل: أين هؤلاء ممّا يجري في غزّة؟ وغزّة ليست تلك المساحة المحدَّدة المعروفة فحسب، بل هي مساحة وجدان ووعي وانتماء، هي القضيّة المركز الآن، إنّها الإبادة التي يرتكبها الصهاينة والأمريكيّون، ومن يساندهم، تحت سمع وبصر العالم، فكيف يستطيع النوم الهادئ مَن يرى ذلك يتكرّر من دون أن يصل الأذى إلى أعماق روحه، ذاك في غزّة وفي أحد الشوارع العربية يزدحمون لاستقبال “إليسا”، بينما تغصّ شوارع بعض البلدان الغربيّة بالمتظاهرين، احتجاجاً على التطهير العرقي في غزّة؟ فأيّ الشارعين هو الأقرب لروح الرسالة المحمّديّة؟ لا شكّ في أنّ من يقف إلى جانب حقّ أهلنا في غزّة هم “محمّديو” الموقف، لا الذين يحتفون بقامة “أليسا”؟.

في مقلَب آخر، ثمّة مواطن أردنيّ افتتح مطعماً وسمّاه مطعم “7 أكتوبر”، ولم تمضِ أيام حتى أُجبِر صاحب المطعم على إنزال اللافتة، والمؤذي الجارح في ذلك أنّ إنزال اللافتة جاء بطلب إسرائيلي!! ويتبجّح بذلك متحدّث صهيوني فيقول: لم يكلّفنا الأمر سوى إجراء اتصال!! ويتابع فيقول ما معناه: ولِمَ لا؟!! فنحن لا نسمح بمرور ذرة سكّر من معبر رفح إلاّ بعلمنا.. هذا الكلام لا يُقال في الغرف المغلقة، بل علناً وعلى رؤوس الأشهاد فأيّ أذى أكبر بعد؟!!..

ثمة معلومات تشير إلى المباشرة بتأسيس إمارة في سيناء التابعة لمصر، يتزعمّها شيخ قبيلة فيها، سيكون دورها مثل دور بقيّة الإمارات القائمة، بل هو أخطر، لأنّ الغاية من إنشائها هو أن تكون خنجراً جديداً في يد الموساد الإسرائيلي!!

عسى ألاّ نُفاجأ بما هو أدهى”!.

aaalnaem@gmail.com