الدّوْشة الأمريكيّة
عبد الكريم النّاعم
دخل صديقي وهو ينفض قطرات المطر العالقة على مظلّته، وركنَها قريبا من كرسيّه، وسلّم بشيء من البشاشة، ومطّ رأسه باتّجاه كتاب وضعْتُه على المنضدة، وقرأ بصوت مسموع “المُسْتَطْرَف في كلّ فنٍّ مُسْتَظْرَف”، وقال بدهشة: “عجيب، الدنيا قائمة قاعدة، وأنت تقرأ في مثل هذا الكتاب”؟!
قلت: “أنا أفرّ من جحيم ما يحيط بنا إلى فضاءات ربّما أروّح فيها عن نفسي، وأخفّف بعض الضغط الذي لا ينقطع حتى في الأحلام، ثمّ لم تذكرْ لماذا الدنيا قائمة قاعدة”؟
قال: “الانتخابات الأمريكيّة، ما تفتح على فضائيّة إلاّ وهي مشغولة بهذا الحدَث، عهدي بك تتابع بدقّة أكثر منّي”.
قلت: “أنا أتابع ما اشعر أنّه يعني هذه الأمّة، وقد يكون له تأثير في مجريات أحداثها”.
قال والدّهشة تملأ عينيه: “أمريكا التي تأمر فتُطاع لدى عدد غير هيّن من “حكّام العرب”، والداعم الأكبر لكيان الاحتلال، ومؤسِّسة داعش، والتي تحتلّ مع عصابات الأكراد شمال شرق سوريّة، واللآّعب الأوّل في العالَم.. هذه، بانتخاباتها المصيريّة.. لا تعنيك”؟!
قلت: “خذني بحلمك، أنا أعرف هذا، وأضعافه، كما أنّني أعرف أنّ أيّ رئيس أمريكي سوف يكون امتداداً بشكل ما لمن سبقه، فيما يتعلّق بقضايانا العربيّة، ولذا فأيّ واحد من المتنافسين في الانتخابات سيكون داعماً فحلاً للاحتلال الصهيوني، ولكلّ أشكال الاحتلال التي تُضعفنا، وتسرق خيرات بلادنا، ومن ينتظر غير ذلك من أيّ من المرشحيْن، فهو واهم، أو مخدوع، ولذا فأنا لا أراهن على أيّ رئيس أمريكي، بحكم تغلغل النفوذ الصهيوني فيها، بأشكاله الأخطبوطيّة، الماسونيّة، المنظمات الكثيرة ذات الأسماء المتعدّدة، في أسواق المال، وفي الصحافة، وفي المافيات، وحتى في الدولة العميقة لأمريكا، فما الذي سيفاجئني؟! اسمع هذه القصة يا صديقي، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان العقيد الشيشكلي يحكم سوريّة، في ذلك الزمن مرّ بحمص الفيلسوف والمناضل العربي الكبير المرحوم زكي الأرسوزي، وجلس في مقهى الروضة الصيفي الشهير، وكان يدور بين الزبائن ماسح أحذية اسمه سليمان، يحمل صندوق “بويا” ويرتدي شروالاً، ويضع على رأسه طاقيّة، وكان مُغرَماً بالسياسة، فما يكاد يجلس إلى زبون ليمسح حذاءه حتى يفتح معه حديثاً عن مجريات سياسة ذلك الزمان، وحين ناداه الأستاذ زكي الأرسوزي، وجد فرصة نادرة للكلام مع رجل له تلك الشهرة، فقال له: “أستاذ، برأيك مين أفضل حكم الشيشكلي، ولاّ حكم حسني الزعيم”، والأستاذ الأرسوزي صوفته حمراء عند أهل ذلك العهد، فقال له بابتسامته المعروفة: “أخي سليمان، أنت بلا مؤاخذة، تمسح الأحذية، فهل يفرق معك في شيء أنّ أمدّ حذاء رجلي الشمال أو اليمين”؟ قال سليمان: “لا، لا فرق”، تابع الأرسوزي: “وهذي مثل هذي”، وتندّر النّاس زمنا بتلك الإجابة، وأنا أرى كلاّ من ترامب وبايدن ينطبق عليهما ذلك المثال، فكلاهما حريص على إرضاء الصهيونيّة، فما الذي يعنيني منهما؟!
لماذا لا نجد مثل تلك الدّوشة حين تُجرى انتخابات في الصين أو في روسيا أو في إيران، أو في أي صقع من أصقاع العالم؟!
إنّ الدّولة العميقة في أمريكا، بمؤسساتها المختلفة يعنيها أن تظلّ أنظار العالم مشدودة إلى كلّ ما هو أمريكي، وتسخّر، بأساليب متعدّدة، هذا النّهج، ليغيب العالم كلّه، بأحداثه، وتتقدّم أحداث أمريكا، من الهامبورغر إلى طريقة الجلوس ومدّ الرجلين على الطاولة، إلى ما يشيع من لباس مشاهيرها، وطريقة قصّهم لشعورهم!
اسمع يا صديقي، ما أدري ما إذا كانت هذه الانتخابات ستشكّل مقدّمة لفرز عنيف داخل أمريكا بين فقرائها وأغنيائها، وبين المتعصّبين للونهم الأبيض الأشقر المدعوم بمنظمات إرهابيّة مسلّحة، و..الرافضين لهذا الفيروس العنصري، وثمة الكثير من البيض من أحرار أمريكا يرفضونه، ويناضلون ضدّه، وما أدري ما إذا كان ذلك سيكون أحد احتمالات تفكّك تلك الولايات، وقد يبدو احتمالا ضعيفا، ولكنه ممكن، فقد عرف التاريخ إمبراطوريات كبرى، حين وصلت ذروة معيّنة، تعرّضتْ لأحداث داخليّة أو خارجيّة فكانت وكأنّها لمْ تَغْنَ بالأمس.
1-دَوَشَتْ – دَوَشاً عينُه: فسدتْ لداء أصابها (المنجد)
aaalnaem@gmail.com