ليسَ… ليست
د. نضال الصالح
في مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، وفي خاتمة حكاية أمير مراكش مع الحسناء “بورشيا”، ما ذهب مثلاً منذ ظهور المسرحية إلى الآن، أي ما قرأه الأمير مكتوباً في ورقة كانت في عين الجمجمة الموجودة في الصندوق الذهبي الذي اختاره: “ليس كلّ ما يلمعُ ذهباً”. وعند العرب، قبل شكسبير، عشرات العبارات والأقوال التي عُدّت من الأمثال الخالدة فيما يعني الدلالة نفسها، ومن تلك العبارات: “ليس كلُّ عذْبٍ نميراً”، و”ليس كلّ ذي مخلب سبُعاً”، و”ليس كلّ ناطق خطيباً”، و”ما كلّ سوداء تمرة، ولا كلّ بيضاء شحمة”. ومن بديع ما جاء في أشعار العرب في هذا المجال قول المتنبي في عجز بيت له: “ولا كلّ مَن يطير ببازِ”، وممّا يحفّ بالمعنى نفسه قول ابن المقرّب في عجز بيت له أيضاً: “كما ليس كلّ البرق يصدقُ خائله”.
أجل، ليس كلّ ما يلمع ذهباً، بل ثمة ما يوهم بوصفه ذهباً بينما هو في الحقيقة ليس سوى معدن بخس مطلي بقشرة رقيقة من الذهب، وهو حال مَن يبرع في إيهام الآخرين بوصفه ملاكاً وهو ليس سوى ذئب أو شيطان في إهاب ملاك، ومَن يعنيه تعالى في قوله: “ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو من ألدّ الخصام”، كما هو حال غير قليل ممّا ينتسب إلى الفعل الثقافي هيئة لا جوهراً، وصخباً لا أثراً، ووظيفة لا رسالة، وممّا يصحّ فيه المثل الشكسبيري: “ليس كلّ ما يلمع ذهباً”.
في رصيد المشهد الثقافي في غير مكان من الجغرافية العربية، ومنذ عقود، آلاف الأنشطة والفعاليات والمؤتمرات والندوات والمهرجانات التي يمكن أن تعني أيّ شيء سوى الثقافة نفسها، لأنها لا تتجاوز كونها ظواهر صوتية فحسب، أو فضاء لتبادل المنافع، والامتيازات، وربّما الدسائس والمكائد والمصائد التي تستهدف كلّ مَن لا يسبّح بحمد هذا أو ذاك ممّن جاؤوا، أو جيء بهم، إلى مواقع صناعة القرار الثقافيّ على غفلة من الثقافة، بل من أيّ شيء يعني هذه المسكينة، الثقافة، التي أصبح المثقفون الحقيقيون فيها، ولا سيما في العقود الأخيرة، أشبه بما كان الشاعر الراحل عمر أبو ريشة حدّث في رائيته البديعة عن النسر الذي “نسَلَ الوهنُ مخلبيه وأدمتْ / منكبيه عواصفُ المقدور .. وعجافُ البغاث تدفعهُ / بالمخلب الغضّ والجناح القصير”.
وبعد، فليس من أيّ من ضروب البلاغة، التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو..، الحديث عن تخمة فادحة في الحياة الثقافية العربية بأشباه شعراء وقاصين وروائيين ونقاد وباحثين، و… تناسلوا حتى كادوا يسدون عين الشمس. وليس من أيّ منها بآن القول إنّ هؤلاء تمكّنوا من إيهام الكثيرين بوصفهم كذلك بفعل أشباه معنيين بالثقافة كانوا بلغوا موقع الصدارة، بل صناعة القرار، في غير مؤسسة ثقافية. وبعد، ثانياً، فما أبلغ قول الجاحظ في كتابه “الحيوان”، باب ممّا قدّمنا ذكره وبينه وبين ما ذكرنا بعض الفرق: ليست كلّ قوّة تُسمّى استطاعة.