الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

معايير الأدب..!

حسن حميد

أرسل إليَّ أديب كبير في رتبته ومقامه وعلمه رسالة قصيرة يقول لي فيها مصارحةً: أنتم تشجعون الكتابة الرديئة، وكان عليكم أنتم المشرفون على النشر أن تجعلوا من صحفنا ومجلاتنا مرايا للجمال، ومرايا للإبداع الحقيقي، لا بل كان عليكم أن تكونوا حراساً لهذه المنشورات كي لا يدخلها غريبٌ أو مفسد أو تائه أو عجول، ألا ترون الفلاحين كيف يحرسون حقولهم البعيدة، كيف يساهرونها، ألا ترونهم كيف يحرسون حواكيرهم وهي أمام بيوتهم أو خلفها وبالعيون اليواقظ، ألا ترون السيدات كيف يحرسن جمالهن ولآخر وقت أو زمن من حياتهن، ألا ترون عمال (النافعة) الذين يحرسون الطرق ويتابعونها مخافة مطب هنا أو حفرة هناك، والطرق زفت، ألا ترون حتى الزفت له حراسه!

بلى، كانت رسالة الأديب، غاضبة جداً، وفيها مصارحة جهيرة، وتفاصيل لا تراها إلا العين التي حباها الله بالحساسية الكاملة، وأجبته أن المُناخ العام، والأحوال، وعزلة الأدباء الكبار وانصرافهم عن النشر، وتشجيع المواهب الشابة كلها من الأمور التي تأخذنا إلى ما لا نريد رؤيته في الصحيفة أو المجلة، وأن وسائل الاتصال الاجتماعي أسهمت أيضاً في أن يزداد الطين بلةً! كانت رسالتي اعتذار، واعتراف، وانحناءة أمام الأديب الكبير، وظننت أن الأمر انتهى برسالته وردي عليها، إلا أن الظنَّ ظنٌّ، فقد عاد وكتب إليَّ رسالة أكثر جهراً وتوضيحاً للارتكابات الشائنة التي نبديها أمام الناس منشورة، ولأن رسالته الثانية أكثر غضباً وتفصيلاً، فإنني سأشير إلى بعض ما جاء فيها، قال: أنتم تنشرون في الصفحات المخصصة للقصة كتابات لا علاقة لها بالقصص إلا إذا كانت عناوين الصفحات في الأعلى تخدعني، فأنا لا أرى في هذه الكتابات حكاية، ولا شخصية، ولا حواراً، ولا أسلوباً، ولا تقنيات؛ إنها كتابات لا يمكن لها، وهي على هذه الصورة والحال، أن تصير قصصاً، ترى ألم يقرأ هؤلاء قصصاً لكتّـاب القصة في بلادنا وهم أجيال، وأصحاب حظ من الجماليات والشهرة والحضور، وإن كان هؤلاء، ذكوراً وإناثاً، لا يريدون قراءة قصص كتّـابنا الكبار، أصحاب المدونات، ألم يقرؤوا قصصاً مترجمة لأدباء العالم المعروفين حتى ينسجوا على منوالها على الأقل، حتى يقلدوها! وأنتم القائمون على شرف النشر ألم تقرؤوا قصصاً مهمة لأصحاب التجارب القصصية الرائقة في بلادنا، ألا تعرفون المعايير التي تجعل من القصة قصة، ألا تعرفون تعريفاً لعلم النص، لتعرفوا جماليات القصة؟! أنا أشك، ولهذا أكتب إليك، كي لا تصير هذه النصوص/ الخدج نماذج يقتدي بها الطالعون، فتصير الكتابة الإبداعية نهباً لكل ضحالة وجهالة! وقال لي أيضاً، وهذا الشعر الذي ينشر، أتظنون حقّاً إنه شعر، وما الفارق بينه وبين ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، إنها نصوص يخترمها النعاس والخدر والتوهان واللاأدرية، عنيت أنها نصوص لا وعي فيها، ولا نوافذ لها، وليس فيها إمتاع أو بهجة!

وكتبت للأديب الكبير، أسأله ما العمل؟! فقال: ليس أمامكم لكي تجعلوا من هذه الصحف والمجلات أحلاماً يرتادها أهل الإبداع والمواهب، إلا أن تعودوا إلى المعايير التي وضعتها العقول النابهة، والذوات العارفة بالنصوص وأهميتها قبل أن تصير للآداب أجناسها، وبعد أن صارت للآداب أجناسها، وهي كثيرة، وأمداؤها واسعة، ولكنها مؤمنة بأن الإبداع هو الذي يصنع ثقلاً ومهابة وجمالاً وسحراً للنصوص، والمعايير لم تكن، في يوم من الأيام، صعبة إلا على الذين لم يعرفوا طعوم الموهبة، ولا معاني التعب الجميل، عودوا إلى المعايير لكي تعود للآداب جمالياتها وأدوارها ومعانيها السامية، ومن دون المعايير سيصير أي محكي.. أدباً، وهذا ما يأنفه الحس السليم.

Hasanhamid55@yahoo.com