دراساتصحيفة البعث

العاصفة تضرب العلاقات الفرنسية التركية

هيفاء علي

تشهدُ العلاقات بين فرنسا والنظام التركي توتراً غير مسبوق على خلفية العديد من القضايا، حيث يُخشى، بعد تراكم الخلافات طوال الأعوام الأخيرة، من حدوث شرخٍ في العلاقة يُصعب ترميمه.

كان آخر هذه الخلافات ما نشرته مجلة “شارلي إيبدو” التي لا تزال تثير الخلافات والانقسامات في فرنسا. فبعد الهجوم المأساوي عام 2015 على المجلة، أصبحت شارلي إيبدو بطريقة ما أحد الرموز القوية للجمهورية الفرنسية. بالنسبة لفرنسا، لا ينبغي التخلّي عن “حرية التعبير” لأي سبب، حيث تستخدم شارلي إيبدو سلطتها للتعبير عن نفسها دون أي قيود.

وبسبب الرسوم التي تنشرها المجلة، أقدم شاب فرنسي من أصل شيشاني على قتل المدرّس صموئيل باتي الذي عرض هذه الرسوم الكرتونية في أحد الصفوف ليصبح ضحية جديدة لمفهوم الحرية المطلقة في التعبير، الأمر الذي أثار موجة غضب عارمة ليس في فرنسا فحسب وإنما في معظم الدول الأوروبية.

لقد أثارت “شارلي إيبدو” غضباً في العالمين الإسلامي والعربي، حيث بدأت مقاطعة المنتجات الفرنسية في العديد من البلدان، وبالتالي سيكون لها بلا شك تداعيات على الوضع الاقتصادي والسياسي. كان النظام التركي من أشد مهاجمي السياسة الفرنسية، لكن مراقبين يشيرون إلى وجود ثلاث طرق يردّ من خلالها ماكرون على النظام التركي وهي: الحدّ من استيراد المنتجات التركية، وتكثيف العمليات الفرنسية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن الضوابط والضغط على ما يُسمّى بشبكات النفوذ التركي التي ترعى وتدعم المتطرفين المتوارين خلف شبكات ومؤسّسات إسلاموية.

لكن حتى الآن، يبدو من الصعب على ماكرون توظيف هذه القضية لأغراض سياسية داخلية، لأن ذلك كان حال عدد من الرؤساء الفرنسيين، حيث كان أكثرهم توظيفاً، وبكل تبجّح، الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في إطار سعيه لاستقطاب أصوات اليمين المتطرف، إذ تبنّى المواضيع المعادية لتركيا مثل “المبادئ” القومية ومعاداة الإسلام. أما في تركيا، فقد بالغ أردوغان من جهته في استعمال خطاب قومي ليبرهن على أن البلدان الغربية -ومنها فرنسا- تسعى لفرض إرادتها وتلاحق حلمها التاريخي. وقد تفاقم هذا البعد من خلال قضية إبادة الأرمن، إذ تبنّى البرلمان الفرنسي سنة 2001 قانوناً يعترف بالإبادة الجماعية، وبعد بضع سنوات، رفض المجلس التأسيسي الفرنسي مرتين في 2012 و2017 محاولات برلمانية لتجريم إنكار الإبادة الجماعية لسنة 1915. وقد استاءت السلطات التركية من هذه المبادرات السياسية التي كانت بداية تدهور بطيء لكن مؤكد للعلاقات بين البلدين.

إضافة إلى ذلك، كانت مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي الخلفية الأساسية لتبادل هذه الاتهامات، وقد ساهمت تصريحات المسؤولين الفرنسيين الرئيسيين في تغذية مناخ شك وعدم ثقة. فقد كانت ردود الفعل متعدّدة وعاطفية عندما كتب فاليري جيسكار ديستان، الذي كان رئيس مؤتمر مستقبل أوروبا، في مقال بجريدة “لوموند” في 9 تشرين الثاني 2002 أن “تركيا بلد قريب من أوروبا، وهي بلد مهمّ يتمتّع بنخبة حقيقية، لكنها ليست بلداً أوروبياً”.

بعدها ببضع سنوات، انكبّ نيكولا ساركوزي على المناداة، بمعية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بشراكة مميزة مع تركيا، عوضاً عن انضمام تام للاتحاد الأوروبي، حتى أنه أعلن “لو كانت تركيا بلداً أوروبياً لكان ذلك أمراً معلوماً”. كما يتساءل أحدهم عما وراء التحليل الذي قدّمه إيمانويل ماكرون في 27 آب 2020 خلال مؤتمر السفراء التقليدي، إذ وصف سياسة أردوغان بـ”المشروع القومي الإسلاموي الذي يُقدَّم عادة على أنه معادٍ لأوروبا”، خاصة وأن فرنسا تدّعي أنها قادرة على لعب دور جديد على الساحة الأوروبية والدولية.

هذا التذكير يفسّر تعدّد أسباب الخلاف بين البلدين، لكن هذا الخلاف لم يتعدَ حتى الآن مستوى الخطاب مهما كان عدوانياً، رغم خيبات أمل بعض الشركات الفرنسية التي تمّت إزاحتها خلال دعوات مناقصات تركية.

جوهرياً، تتعدّد الآن الخلافات، وهي تتعلّق أكثر فأكثر بملفات جيوسياسية، ويبدو أن التصعيد والمواجهة المباشرة يطغيان على كل ملف حتى بات انعدام التفاهم واضحاً. وإذا لم ينتهِ عام 2020 عن مفاجآته بكل هذه التطورات المثيرة للقلق، فهناك شيء واحد مؤكد هو عالم جديد سيتمّ تشكيله وفرنسا تحاول أن تكون مقدّمة له، كما كان الحال مع الثورة الفرنسية عام 1789.