الطب الشرعي..منظومة صحية دون رعاية أو دعم وضياع لحقوق الأطباء!
لا يمكن لأي شخص أن ينكر أهمية الدور الحيوي الذي يقوم به الطب الشرعي، سواء في أوقات السلم أو الحرب والأزمات، وتتجلّى اليوم أهميته الكبيرة في سورية خاصةً بعد ما سبّبته الحرب الإرهابية المستمرة منذ عشر سنوات من كوارث وما خلّفته من ضحايا ومفقودين، وعلى الرغم من ذلك لم يتمّ ايلاؤه أي اهتمام، ما جعله يعاني الكثير من المشكلات في مختلف النواحي، ويأتي على رأسها النقص في عدد الكوادر والضعف المادي.
الدور الحيوي
الدكتور حسين نوفل الرئيس الفخري للطب الشرعي في سورية، وأستاذ الطب الشرعي في كلية الطب بجامعة دمشق، تحدث لـ”البعث” عن الدور الحيوي الذي يلعبه الطب الشرعي في ظل جميع القضايا التي يشوبها عنف أو مشكلة قانونية، ما يجعله فرعاً من فروع الطب الذي يجيب عن المسائل الطبية في حقل القضايا القانونية، سواء كانت قضائية أو غيرها، مؤكداً على دوره الكبير في زمن الحروب والأزمات التي تحدث في مجتمع ما لجهة “تحديد الإصابات ونسب العجز وأسباب الوفيات.. إلخ”، مضيفاً: أثناء الحرب السورية كانت الإصابات الحربية والإصابات الرضيّة هي المسيطرة، لكن اليوم وبعد تحرير معظم المناطق من العصابات الإرهابية لاحظنا انخفاضاً في الأعداد، على الرغم من المعاناة المستمرة كوجود “الألغام والخلافات بين الناس” التي نلاحظ أن معظمها يأخذ طابع العنف الذي تولّد نتيجة الأزمة التي عشناها “إصابات نفسية، وخلل اجتماعي، وانزياحات سكانية”.
أهمية الطب الشرعي
يرى الدكتور نوفل أن عدم شعور الحكومة بأهمية الطب الشرعي ينبع من اعتقادها بأن اهتمامها يجب أن ينحصر بقضايا الصحة، وهذا ما ينطبق أيضاً على وزارة الصحة التي تهتمّ بصحة الأحياء، وهذا طبعاً توجّه طبيعي، ولكن علينا أن نلفت أنظار البعض إلى أنه من ضمن صحة الأحياء هناك إصابات للأحياء “كسور، حوادث.. إلخ”، وبالتالي هؤلاء يحتاجون إلى الطب الشرعي، ما يجعل كل الإجراءات القضائية، سواء للأموات أو الأحياء، تحتاج للطب الشرعي.
هيئة مستقلة
وبيّن الدكتور نوفل أن قانون الهيئة العامة للطب الشرعي صدر في عام 2014 كهيئة مستقلة ترتبط برئيس الوزراء، وليست تابعة لرئاسة الوزارة كما حاول البعض تفسيره، ولكن الذي حدث حينها أن وزارة الصحة أصرّت على تبعية الطب الشرعي لها كونه يضمّ أطباء. وقال د. نوفل: ما حاولنا توضيحه للصحة في وقتها أن الطب الشرعي منذ بداية تشكيله في القانون السابق يتبع لوزارة العدل كمديرية من مديريات وزارة العدل، لكن لم يتمّ تطبيق هذا الأمر لأن وزارة العدل أصلاً لا تضمّ أطباء، فتمّ تكليف وزارة الصحة ريثما يصبح عند العدل أطباء، وطبعاً “ريثما” هذه استمرت منذ 1956 حتى 2014، وكما هو معلوم لدى الجميع أنه وقبل صدور قانون الهيئة العامة للطب الشرعي في 2014 كانت هناك رابطة للطب الشرعي في 2000 ثم في 2005 تمّ إنشاء مركز للطب الشرعي.
إشكالية الأجور!
تحدث الدكتور نوفل عن حبّ الطلاب للطب الشرعي، ولكنهم لا يجدون فيه مستقبلهم، وتساءل: هل يعقل أن يكون الأجر المادي مقابل تشريح الجثة 300 ليرة، من سيعمل من أجل هذا المبلغ؟. وهذا ينسحب أيضاً على أجر القاضي الذي سيذهب للكشف على الجثة، مضيفاً: لا شك أن هذه الإشكالية الكبيرة في موضوع الأجور بالنسبة للقضاة والطب الشرعي، انعكست على عدم رغبة الكثيرين بأن يتوجهوا لمثل هذا الاختصاص. وتابع نوفل: نحن نمتلك كوادر لديها مستوى عالٍ من التأهيل والكفاءة والأداء لا يقلّ أهمية عن تلك التابعة للمنظمات الدولية، ولكن الأجور قليلة جداً ولا تتناسب مع جهود وإمكانيات الكوادر في الطب الشرعي!.
الاستراتيجية المطلوبة
من وجهة نظر الدكتور نوفل لا يوجد لدى وزارة الصحة استراتيجية واضحة بالمعنى الصحي، لأنه يفترض عندما نريد أن نفكّر بصحة الناس أن نفكر بدايةً بالرعاية الصحية الأولية، ولكن ما تقوم به اليوم وزارة الصحة يقوم على دعم المشافي أو المراكز الصحية الأعلى “مشفى القلب أو الكلية أو العيون”، وهو ما نطلق عليه رعاية صحية ثلاثية. أما المشافي الأخرى على سبيل المثال كالمجتهد فتعتبر رعاية صحية ثانوية، إذن الرعاية الصحية الأولية تتمثل بالمراكز الصحية من مستوصفات وعيادات والتي تغطي جميع المواطنين، وتتضمن ملفات صحية واضحة ومعروفة، وأن نقوم بالتركيز عليها فهذا بالطبع يحتاج لطب أسرة، وهو ما نفتقر إليه، فعلى سبيل المثال لا يوجد لدينا في الجامعة إلا طبيبة أسرة واحدة، في حين لا يتجاوز مجموعهم في كل سورية 20 إلى 30 طبيباً، وطلاب الطب لا يرغبون في طب الأسرة لأن وزارة الصحة أصلاً لا تدعم هذا الاختصاص والطالب لا يريد أن يكون “طبيباً عاماً” بعد أن ينهي سنوات الاختصاص، لذلك نرى -والكلام للدكتور نوفل- معظم التوجهات من قبل الطلاب تذهب نحو الجراحة والاختصاصات الأكثر دقة أو للسفر، وفي حقيقة الأمر نحن نقوم بتهيئة وتخريج طلاب طب للتصدير لعدم توفير الظروف الملائمة لهم لبناء مستقبلهم، متابعاً حديثه: أنهم في الجامعة ومنذ أكثر من أربع سنوات ليس لديهم دراسات عليا في الطب الشرعي، وكل كلمة تصدر عن تقرير الطبيب الشرعي لها أهمية كبيرة ومعنى قضائي قد يصل على سبيل المثال للسجن، فضلاً عن التهديدات التي يتعرّض له الطبيب الشرعي في عمله، ما يجعل واقع العمل في مثل هذه الظروف شبه مستحيل.
الدور الكبير
المشكلة الكبيرة التي أشار إليها الدكتور نوفل وأننا سنواجهها بعد انتهاء الحرب هي “المقابر الجماعية والمخطوفون والمفقودون” والتي ستظهر بشكل واضح وستكون عبئاً كبيراً، وما تشكله من معاناة حقيقية للأهالي الذين ينتظرون معرفة مصير أبنائهم هل هم أموات، وفي حال موتهم هل يوجد أي أثر منهم؟ فهو خدمة إنسانية في نهاية المطاف لأنه يشكّل راحة نفسية للأهالي، أضف إلى ذلك الأشخاص الذين يظهرون فجأة بعد غياب قد يصل لسنوات، كلها أمور تؤكد على الدور الحيوي للطب الشرعي في الكشف عن الهوية الحقيقية لهؤلاء الأشخاص الأحياء منهم والأموات. ويضيف الدكتور نوفل أن الحرب التي دارت في كوسوفو، وعلى الرغم من أنها كانت زمنياً أقصر من الحرب التي تعرضنا لها في سورية، وعلى الرغم من انتهائها منذ أكثر من 30 عاماً ومع ذلك هم حتى اليوم لم ينتهوا من هذه القضايا ولا يزال أمامهم عمل 70 بالمئة تقريباً على الرغم من امتلاكهم لكوادر هائلة، ما يعني أننا هنا أمام عمل قد يصل إلى عشرات السنين، وبالتالي لن تكون هناك حلول للكثير من المشكلات التي تحتاج إلى حصر إرث.. وغيره، ما سينتج عنه من مشكلات اجتماعية وقانونية، هذا ولم نتطرق أيضاً إلى قضية أطفال النساء الذين كانوا نتيجة ما يُسمّى “جهاد النكاح” والتي هي أيضاً قضية تحتاج إلى طب شرعي!.
إذن.. نحن نعاني من غياب المنظومة الصحية الصحيحة، والعمل بعشوائية في كثير من القضايا المهمّة والتي تحتاج إلى ترتيب وتنظيم، وغياب قاعدة بيانات وأتمتة وفكر منظم لنكون قادرين على حصر المشكلة وتحديد حجمها، والسبب ببساطة هو أننا ما زلنا نعمل منذ الاستقلال تقريباً حتى الآن على مبدأ (كل يوم بيومو!!)، يختم الدكتور نوفل حديثه.
لينا عدرة