مذبحة قبية.. نموذج للإبادة والتطهير العرقي
د. معن منيف سليمان
مر ستون عاماً على القرار الأممي رقم /101/، الذي أصدره مجلس الأمن في يوم 24 تشرين الثاني عام 1953، والذي أدان الكيان الصهيوني بسبب مذبحة ارتكبته قواته في قرية قبية الفلسطينية، ورغم مرور سنين طويلة على صدور هذا القرار، لايزال الشعب العربي الفلسطيني ينشد العدالة والإنصاف من لدن العدالة الدولية، التي أخفقت هيئاتها إخفاقاً ذريعاً في إعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وزجر الجناة الإسرائيليين، الذين يتمتعون بتحصّن مزدوج: السلطة النافذة، والإفلات من العقاب، مستفيدين من التركيبة الانتقائية للهيئات السياسية الدولية، على غرار مجلس الأمن الدولي، البعيدة كل البعد عن التمثيل الحقيقي للمجتمع الدولي، فضلاً عن دوافع تدخلات تلك الهيئات التي تحكمها عادة الإرادة السياسية المحكومة بالمصالح الحيوية للدول الكبرى.
إن مذبحة قبية نموذج سافر لسياسة التطهير العرقي التي ينتهجها الكيان الصهيوني الهادفة إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني، وعلامة بارزة في انتهاكه للقانون والأعراف الدولية، فالتطهير العرقي هو سياسة تنتهجها مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى على أرض معينة، على أساس ديني أو عرقي، أو قومي، وتتضمن هذه السياسة العنف، وغالباً ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية، ويتم تنفيذها بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان، والقانون الدولي، وتشكّل أساليب التطهير العرقي انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف عام 1949، وللبروتوكولات الإضافية لعام 1977، وقد أصبح التطهير العرقي حالياً مفهوماً معروفاً جيداً، وصار الآن يُعرّف بأنه جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي.
ففي منتصف شهر تشرين الأول عام 1953، أغارت الفرقة /101/ التابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي بقيادة الإرهابي “أرييل شارون” على قرية قبية، التي تقع شمال مدينة القدس، وذلك بناء على أمر أصدرته حكومة الإرهابي “ديفيد بن غوريون” إلى قيادة المنطقة العسكرية الوسطى التي أصدرت أوامر إلى الوحدة المذكورة آنفاً وكتيبة المظليين رقم /890/، ونصّ الأمر على: “تنفيذ هدم وإلحاق ضربات قصوى بالأرواح بهدف تهريب سكان القرية من بيوتهم”. وتنفيذاً لهذا الأمر طوّق 600 من قوات لاحتلال القرية تماماً في ليلة 14 تشرين الأول 1953، وقصفتها بصورة مركّزة ودون تمييز، ثم دخلت قوة إليها وهي تطلق النار عشوائياً بعد أن تمكنت من التخلص من المقاومة التي أبدتها قوة الحرس الوطني بإمكانياتها المحدودة في القرية، وبينما كان يجري حصد المدنيين العزّل بالرصاص قامت عناصر أخرى بتلغيم العديد من منازل الفلسطينيين وتدميرها على من فيها، وبعد ذلك فجّر المظليون خمسة وأربعين بيتاً من بيوت القرية، ومسجداً، وخزان مياه القرية، وتم اغتيال، وبدم بارد، 69 مواطناً، غالبيتهم من النساء والأطفال والشيوخ، وقال شهود عيان نجوا من المذبحة: “إن جنوداً إسرائيليين رابطوا خارج المنازل في أثناء الإعداد لنسفها وأطلقوا النار على كل من حاول الفرار من هذه البيوت المعدة للتفجير، وقد استمرت المذبحة الوحشية حتى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي 15 تشرين الأول 1953.
في بادئ الأمر تذرعت “إسرائيل” بأن الهجوم جاء انتقاماً لمقتل امرأة يهودية وطفلها، وادعت أن مرتكبي المذبحة هم من المستوطنين الصهاينة وليسوا قوات نظامية، ولكن مجلس الأمن الذي أدان الجريمة عبر قراره الذي صدر في 24 تشرين الثاني عام 1953، عدّ الهجوم عملاً تم تدبيره منذ زمن طويل، ونفذته قوات إسرائيلية، وهو أمر أيدته اعترافات بعض القيادات الإسرائيلية فيما بعد.
لقد اعترفت بعض الصحف الإسرائيلية بأن ما جرى في قبية كان مذبحة جماعية وجريمة رهيبة، فقد انفردت صحيفة “كول هعام” بعنوان: “ارتكاب عملية قتل جماعية في قرية قبية العربية” الذي نشر في 16/10/1953، حيث جاء في مقال افتتاحي لها: “ضد القتل: القتل الجماعي على أيدي إسرائيليين مسلحين جريمة رهيبة.. دير ياسين جديدة”.
إن ما يعيشه الفلسطينيون يومياً من اعتداءات مستمرة على مرأى العالم وأمام شاشات التلفزة يدعو المجتمع الدولي للتدخل السريع لوقف المجازر الهادفة إلى استئصال الشعب الفلسطيني، وضرورة تطبيق الإجراءات القانونية اللازمة فيما يتعلق بجرائم قوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستمرارها في انتهاك القانون الدولي.