ثقافةصحيفة البعث

وهم له رائحة وعمق ولون

كان من الصعب عليّ متابعة أخبارها، بعد غياب دام لسنين أو دهور طويلة-لا أعلم بالتحديد- عدا عن بعض الخطوات التي أجدها بين الحين والآخر في أماكن غريبة وبعيدة، وكأنها آثار لأقدام نمرة قد مرت من هنا، تلك الآثار التي كانت تتركها مرة على شكل أوراق وردة قرمزية اللون، ومرة على شكل إشارات استفهام، ومرات أخرى بلا شكل محدد، كسلام حيادي بارد لا يعني شيئاً بأحسن الأحوال إلا كونه سلاماً حيادياً وبارداً ولا يعني شيئاً، خطوات كانت غالباً مصحوبة برائحة قوية ونفاذة كما لو أنها مخلب حاد وبلا قلب، رائحة قادرة بالتأكيد على الدلالة على أنها خاصة بها دون سائر الناس والورود والنيران والعواصف والفصول، دون سائر المدن والبيوت والكروم والضفاف، دون سائر القمصان المشجرة والقبعات الزاهية والثياب الحميمة التي تحمل عبقها وشذى أنوثتها الفواح.

حدث مرة أن فتحت نافذتها المغلقة منذ مدة طويلة، لتفاجئني رائحة هبوب أجراس الكينا على رصيف، كانت رائحة واقعية جداً، وكأنها مركبة من طعم ولون وعمق، قلت لنفسي: هو وهم لا أكثر، ثم عدت بعد قليل لأصحح عبارتي بأنه “وهم”، ولكن له عمق ورائحة ولون، وحدث أن فتحت كتاباً قديماً، لكني لم أصدق بأنها قد تعود يوماً، وتنبعث من وردة قرمزية يابسة غافية بين دفتي رواية “الجريمة والعقاب”، امرأة فائقة الجدائل تغني “بقطفلك بس هالمرة”، من يومها كلما فتحت كتاباً طالعتني وردة تدعو علي، بفم ذابل وأوراق يابسة، وكأني بها تقول: “اذهب وكن أنت أنت إن استطعت لذلك سبيلاً” وها أنا نزولاً عند كلماتها، لست أنا ولا أعرف عن نفسي إلا ما تذكرني به حين تعود خطواتها لتتمشى في خاطري، البارحة مثلاً قالت لي لماذا وجهك بلا ملامح؟ واليوم انتبهت من نظرات الناس إلي، أنني حقاً بلا ملامح!.

مازالت على عاداتها التي لم تغيرها يوماً حتى لو أنها همت بذلك، فما يحدث هو أنها بلا قصد منها تقع رائحة ما تختبره اللحظة عن أكتافها كشال طيره النسيم، فتفضحها، تضحك طويلاً أحياناً، ومن بين أصابعها تسيل حروف الهاء المرحة، لكن الرائحة السابحة في الهواء تحكي، أن كحلها كان قد أغفى منذ سنين طويلة على وسادتها، وكانت “طعمته” مائلة للحزن، أما رائحته فتجزم بذلك، وكانت لهذا الكحل رائحة إله يمشي كذئب وحيد في فياف بعيدة.

تمّام علي بركات