“السايبر ديبلوماسي”!..
د. مهدي دخل الله
لعل الديبلوماسية واحدة من “الاختراعات العربية” القديمة، وما أكثر هذه الاختراعات. وأقدم وثائق الديبلوماسية هي رسائل تل العمارنة في مصر من القرن السادس عشر قبل الميلاد. بعدها جاءت وثائق (أسيريا – آشور) من شمال سورية والعراق. ولما كان العرب – سورية ومصر والعراق خصوصاً – يقعون في منتصف العالم القديم (القارات الثلاث) كان تعاملهم مع العالم قوتاً يومياً، أي أن الديبلوماسية – التي تعني التواصل بين الدول والأمم – كانت حاجة ملحة للوجود العربي باستمرار..
واليوم، ما زال الأمر كذلك. الديبلوماسية – بالنسبة لنا في سورية – لا تقل أهمية عن المعارك ضد الإرهاب وحماته في الميدان!..
وللديبلوماسية مدارس عدة. محور هذه المدارس الإجابة عن السؤال الآتي: هل الديبلوماسية تعبير عن المواقف السياسية، أم إنها تسويق لهذه المواقف؟ أي هل هي درس تبشيري في الإيديولوجيا، أم مهارة في “الماركيتنغ” السياسي؟
من الواضح أن لدينا نهجين عامين: نهج التعبير ونهج التسويق. هناك من يؤيد التعبير فيكون من بين الشارحين الإيديولوجيين، وهناك من يفضل التسويق فيكون من بين دعاة التقنيات السياسية المعاصرة.
هدف نهج التسويق التأثير على “الآخر”، و”ترويج “البضاعة الوطنية”، وليس عرض تفسيرات ومسوغات لهذه “البضاعة”. فالتعبير والتسويغ يتجه نحو الإقناع، والإقناع مستحيل عملياً في العلاقات بين الدول، بينما تسويق المواقف – بمعنى التأثير على الآخر – ممكن وضروري..
إن الفرق بين النهجين هو تماماً الفرق بين المنظومة الميكانيكية والمنظومة السايبرية. الأولى تحاول فرض ماتريد بأسلوب (takce it or leave it)، وبالتالي لا تضع أمامك خيارات، وغالباً ما تترك وتغادر. الثانية تأخد منك لتعطيك فيحصل التأثير الفعال المتبادل.
المنظومة الميكانيكية تشبه آلة القهوة في المكاتب، فعليك أن تضع قطعة نقود معينة ومحددة بالحجم والشكل فتأخذ فنجان قهوة، ولا شيء غير القهوة. الثانية هي كومبيوتر يتعامل معك، وتتعامل معه تفاعلياً وفق خيارات عدة.. المهم هنا ألا تنتهي العملية دون تحقيق أهداف معينة..
المنظومة الديبلوماسية السايبرية هي تعامل تفاعلي مع الآخر، وهي الأكثر جدوى لأنها تقضي فعلاَ على الروح الإنهزامية (defeatism) فاتحة خيارات عدة مع عمليات ارتقاء بهذه الخيارات وفق إمكانات متعددة ومتاحة.
لنأخذ هذه الحالة المفترضة لنهج الديبلوماسية السايبرية (وهي حالة ليست مفترضة تماماً). لنفرض أن وزير خارجية سورية كان – قبل 13 عاماً – يفاوض في دمشق وزير خارجية فرنسا، تمهيداً للقاء قمة مقترح بين رئيسي البلدين. وزير الخارجية الفرنسي ليس سعيداً بمهمته، لأنه كان معادياً لسورية، وهو يحاول دفع مضيفه السوري لإفشال التباحث وإلغاء القمة.
في بداية المباحثات يعمل الوزير الفرنسي على إثارة الوزير السوري وإغاظته فيقول:
– أنا لست سعيداً بوجودي في دمشق، لأنكم في الثمانينيات قمتم “بمجازر ضد المدنيين”، في اشارة إلى تصدي سورية لإرهاب الإخوان المسلمين.
رد الفعل الميكانيكي:
الوزير السوري: ألا تخجل من هذا الطرح، وأنتم الدولة الاستعمارية الكبرى، وقد قتلتم مئات الآلاف، بل الملايين، من السوريين والجزائريين والأسيويين والأفارقة؟ ماذا لو نطالبكم اليوم بثمن الدماء، أيها الاستعماريون القتلة؟ نحن قضينا على إرهاب الإخوان المسلمين دفاعاً عن المدنيين.
هنا ينفض اللقاء دون نتائج, ويحقق الفرنسي مأربه، وتفشل العلاقة بكاملها..
رد الفعل في إطار الديبلوماسية السايبرية:
الوزير السوري: سيادة الوزير الضيف، أليس من الأفضل أن ننظر الى المستقبل ناسين الماضي بكل تجاذباته؟
هنا يكون السوري قد أنقذ الموقف، إذ أنه لم يجابه ضيفه بمثل وقاحة هذا الضيف، وإنما أخذ خياراً مقبولاً لدى الطرفين من أجل تحقيق الهدف..
إن أهم عوامل نجاح الديبلوماسية السايبرية هو أن تعطي رد الفعل (feed back) أهمية تساوي أهمية الفعل، فللإثنين أثرهما المتداخل، لأن المنظومة السايبرية عندما تتعامل مع المحيط عبر تبادل المعلومات تتأثر بالفيدباك القادم من المحيط، تماماً كما تؤثر فيه. هذا يعني أن رأي “الآخر” مهم، كرأيك، لأن الفشل الديبلوماسي يعني فشل الجانبين..