التضحية بالوزير لإنقاذ الملك!
إبراهيم أحمد
يصعبُ الحديث عن خروج البيرق من المشهد السياسي بشكل كامل، فهو ليس مجرد وزير بالحكومة فقط، أو أنه تولّى المنصب نتيجة زواجه من ابنة أردوغان، كونه يُمثّل عائلته الكبيرة التي باتت تمتلك وتتحكّم بأكبر المنظومات الإعلامية في البلاد التي تدافع عن الحزب الحاكم، وبالتالي فإنه يتحكّم بإمبراطورية إعلامية ضخمة ونفوذ كبير داخل الحزب جعلته يُشّكل تياراً ربما هو الأقوى داخل أطر العدالة والتنمية، وهو ما يعني أن البيرق ربما سيكون قريباً في منصب وزاري جديد أو منصب أهم داخل أطر الحزب.
إلى ذلك يواصل أردوغان محاولات إنقاذ صورته بسبب دوره في تأزيم المشهد الاقتصادي التركي. وفي هذا الإطار قام مؤخراً بإجراء تعديلات في مجموعته الاقتصادية التي شهدت مغادرة وزير المالية ومحافظ البنك المركزي، حيث أقدم أردوغان على إقالة محافظ البنك المركزي التركي مراد أويصال، وتعيين وزير المالية السابق، والد زوجته ناجي أغبال، بدلاً منه على رأس البنك المركزي.
لماذا أقدم أردوغان على هذه الخطوة الآن؟. كما هو معروف كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002 بسبب الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد في بداية الألفية، وأردوغان يعلم جيداً أن الوضع الحالي بعد 18 عاماً من سيطرة حزبه قد عاد كما كان، لذلك يريد الإيحاء للشعب بأنه يعمل على تغيير المجموعة المالية التي تسبّبت في الوصول لهذا الحدّ، ولكن محافظ البنك الجديد ليس بالرجل القوي الذي يستطيع إنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور، والشخصيات الجديدة التي عيّنها هي ليست بالجديدة فهي وجوه قديمة من حزب العدالة والتنمية، فأغبال،على سبيل المثال، سبق له تولي وزارة المالية، ولم يحقّق أي شيء، ولكن أردوغان لا يستطيع اختيار كفاءات من خارج الحزب، لأنه لو أتى بشخص مستقل لرئاسة البنك المركزي سيعرف كل عمليات الفساد التي تدور فيه، وهو أمر لا يرضى به أردوغان، ولذلك يختار أشخاصاً محدودي الكفاءة من داخل الحزب.
لاشك أن أردوغان يحاول إنقاذ نفسه بإجراء تغيير في المجموعة الاقتصادية، ذلك أنه رجل براغماتي، مستعدّ للتضحية بأي شخص في سبيل حماية نفسه، ومستعد للتضحية ليس بصهره فقط، بل قد يتخلّى عن ابنه أو ابنته أو زوجته في سبيل بقائه في السلطة، ولا يُستبعد الذهاب نحو تعديلات وزارية أخرى خاصة بعد فوز الرئيس جو بايدن في الانتخابات الأميركية، وخشيته من فرض عقوبات على تركيا.
دعوة للرحيل
يرى الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي، مدحت سنقار، أن استقالة البيرق وإقالة محافظ البنك المركزي، ليست مجرد مشكلة استياء وغضب، لأن هناك مشكلة أعمق بكثير في الوسط السياسي، وهي حقيقة إفلاس النظام وانهياره. وأضاف سنقار: “ما يسمونه نظام الحكومة الرئاسية بالطبع كما يُطلق عليه هو في الحقيقة نظام غريب، هذا النظام معطّل، وبما أن هذا النظام معطّل فلا يمكن التخلّص منه بتحميل المسؤولية لشخص واحد فقطـ، لأن المسؤول الرئيسي هو من في القمة العليا من هذا النظام، والمسؤولية الرئيسية هي النظام نفسه. ولهذا السبب نقول إن استقالة وزير المالية والاقتصاد فقط لا تكفي”، داعياً أردوغان وحكومته إلى الاستقالة وحلّ البرلمان، والذهاب نحو انتخابات مبكرة.
أما زعيم المعارضة التركية، كمال كليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، فقال إن مسؤولية الاقتصاد تقع على عاتق أردوغان كما صّرح سابقاً.. إنه المسؤول عن الاقتصاد، فإذا كانت هناك مشكلة أو أزمة، فإن من يجب عليهم إدارة هذه الأزمة، لا يمكنهم إدارتها، لكن الشيء الغريب هو أن أولئك الذين لا يستطيعون إدارة أزمة بسيطة هم من يديرون الدولة. وتابع، في تصريحات صحفية، هناك جملة واحدة ستُقال “لن تستطيع التضحية بالوزير لإنقاذ الملك”، وأردوغان لا يمكنه أن يحمل بيرات البيرق المسؤولية لينقذ نفسه، وأن هذه التغييرات قد تتسبّب في انتعاش البورصة أو الليرة التركية بشكل مرحلي أمام الدولار، ولكن هذه الانتعاشة المؤقتة لن تدوم، وسرعان ما ستعود للانخفاض مرة أخرى بسبب السياسات الاقتصادية التي ينتهجها رأس النظام، وحالة التردي العام التي يعانيها الاقتصاد.
سياق طبيعي
السياق العام لإمكانية استقالة أو إقالة الوزير القوي لم يكن مفاجئاً، حيث تحوّل الوزير إلى قضية الرأي العام الأولى في تركيا رسمياً وشعبياً، وذلك في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد في السنوات الأخيرة، وتزايدت في الأسابيع الأخيرة مع فقدان الليرة التركية مزيداً من قيمتها أمام العملات الأجنبية ووصولها إلى مستويات متدنية غير مسبوقة. الصعوبات الاقتصادية التي تمرّ بها تركيا وتزايدت خلال فترة قيادة البيرق لوزارة الخزانة والمالية لم تقتصر على انخفاض قيمة الليرة، وإنما تمثلت في انخفاض حاد باحتياطات البنك المركزي وتراجع كبير في معدلات النمو، وبالتالي ارتفاع في نسب التضخم والأسعار وتزايد في معدلات البطالة وغيرها الكثير من المؤشرات السلبية التي ينسبها البعض إلى الصعوبات الاقتصادية العالمية لعوامل مختلفة، أبرزها انتشار فيروس كورونا وتبعاته القاسية على الاقتصاد، فيما تحمّل المعارضة التركية الوزير المسؤولية، وتقول إن ذلك نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة التي اتبعها وقلّة خبرته. وطوال الأشهر الماضية، وجّهت أحزاب المعارضة التركية المختلفة دعوات شبه يومية من أجل إقالة البيرق وتعيين وزير جديد للنهوض باقتصاد البلاد، وبات وسم “استقالة بيرات البيرق” يكاد لا يغادر قائمة أبرز الوسوم على تويتر والمالية.
كواليس غامضة
كان أردوغان يتوقع أن ينجح في حثّ البيرق على التراجع عن الاستقالة، وبالتالي يعود الوزير للحديث عن وجود اختراق لحسابه، ويكون قد حقّق الغاية من استقالته وهي تشكيل حالة من الضغط لتحقيق بعض المطالب والتوازنات السياسية داخل أطر الحزب، ولاسيما في ظل تنامي الحديث عن احتدام التنافس بين تيارين أساسيين داخل “العدالة والتنمية” يقود أحدها البيرق والثاني وزير الداخلية سليمان صويلو. لكن مع مرور الوقت، تراجع هذا الاحتمال، وبات سيناريو الحديث عن اختراق للحساب غير وارد على الإطلاق، كما أن الانتقادات الهائلة للمعارضة التركية للطريقة التي قدّم بها الوزير استقالته عبر إنستغرام، وترك المجال للفراغ وما يحمل ذلك من أضرار في الاقتصاد التركي، تجعل من حماس أردوغان نحو حثّه على التراجع عن استقالته يتضاءل بشكل كبير، وبالتالي تلاشت على الإطلاق فرص عودة البيرق لمواصلة مهامه في وزارة الخزانة.