أصحيح أنّه لا وطن للحكاية؟
الأيّام العشر، هي الترجمة الحرفيّة للرواية الإيطالية المعنونة بـ”الديكاميرون” لمؤلّفها “جيوفاني بوكاشيو” الذي عاش في القرن الرّابع عشر الميلادي. ويعتبرها البعض تحفة من تحف الأدب الأوروبي الكلاسيكي في القرون الوسطى، حين كانت القارة الأوروبيّة ترزح تحت وطأة ثلاث سلطاتٍ قاهرة، سياسيّة اجتماعيّة اقتصاديّة، تمثّلها “السلطة الإقطاعيّة” وأخرى دينيّة صارمة تأخذ تعاليمها من سلطة المقدّس الكلّي القدرة. يحكمها البابوات، ولديها محاكم تفتيش وبوليس يُحصِي الأنفاس، وتتمثّل “بالسلطة الكنسيّة”. وسلطة أخرى طارئة، رهيبة حصدتْ أرواح أكثر من ربع سكّان القارّة آنذاك، كما قيل، وتجلّت بجائحة “الطاعون”.
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتطلّع إلى أفكار نهضويّة تنتشلها من قيودها وأعرافها الخانقة، وتحاول أن تجد حلولاً لهذا المرض الفتّاك. لكنّ كان ينقصها جرأة التمرّد التي عوّضها إيّاها الكاتب “بوكاشيو”، “1313- 1375 م”، بعد إدراكه أنّ المجتمع قد غدا بأمسّ الحاجة لكتابة نصّ مختلف ينتشل الناس من حالة الاستلاب والسكينة والخضوع، وينحو بهم باتجاه المرح والتسلية ونبذ القيود، فكانت فكرة ليالي الديكاميرون هذه، التي سارت على خطى السرديّة العالميّة الكبرى “ألف ليلة وليلة العربيّة” من حيث آلية القصّ المتوالد من بعضه. وقد اعتبرتْ مفتاحاً للسرد الأوروبي الجديد، والدرب الممهّدَ لروايات عصر النهضة. اللّيالي العربية اكتفتْ بضمير مؤنّث وحيد، يروي الأحداث وهو ضمير “شهرذاد”، بينما “الديكاميرون” أفسحت المجال لعشرة رواة، كي يتبادلوا السرد. حيث تجتمع سبع نساء في بهو كنيسة “سانتا ماريا” في “فلورنسا” للتضرّع من أجل البقاء على قيد الحياة، بعد أن حصد الطاعون أرواح أغلب سكّان المدينة، فتقترح إحدى النساء الذهاب إلى قصر خارج المدينة ريثما تنجلي الأمور. بينما الأخريات يتردّدن، ثمّ ينضمّ إليهنّ ثلاثة شبّانٍ لاهون عابثون، يريدون الترويح عن أنفسهم. يعجبهم اقتراح المرأة ويسعون لتنفيذه، وتبدأ لعبةُ قتل الوقت عن طريق الحكي، إذ يتمّ انتخاب ملكة لكلّ يوم. هي من يقرّر نوع ومسار الحكاية، ثم يأتي دور الشّبان أيضاً، ليسردوا الأحداث بطريقتهم الخاصّة أيضاً. وهكذا تتجمّع لدينا مائة حكاية، يرويها عشرة رواة في عشرة أيّام. وهي الفترة التي قضوها خارج أسوار المدينة.
يوجّه الكاتب في مقدّمة كتابه رسالة مواساة إلى النساء الحزينات في مُصابهنّ وهنّ يقضين الوقت في “أشغال الإبرة والمغزل والحياكة”. كما يشتغل السّرد على مواضيع عديدة منها الحزين ومنها المفرح، معتمداً أسلوبَ المفاجأة في تقديم الأحداث المتلاحقة، وغير المتوقعة. ونلمسُ أيضاً، شيئاً من معاناة الكاتب المؤلمة على الصّعيد الشّخصي، معكوساً في تفاصيلها، حيث تعرّض لتجربة حبّ عاصفة انتهت بكارثة، وهو الذي عاش حياة عبثيّة متهتّكة قضاها متجوّلاً بين المدن الإيطاليّة، معاشراً لأبناء الطبقة البرجوازيّة، وراصداً لقصص الحبّ والخيانة في المجتمع، ما جعله يخوض في المناطق المعتمة والمحرمة، هاتكاً محتويات الصندوق الأسود للعلاقات الغراميّة الخاصّة. مستخلصاً منها الأمثولات والنصائح المفيدة. هذه الأمور وغيرها هي من حرّك ماكينة السّرد في “الأيام العشرة”، فكانت النتيجة أنّه أصبح بين يدينا نصوص مختلفة، بمقوّمات حكائيّة جديدة استمدّت مواضيعها من مخزون الكاتب وتجاربه العاطفيّة العابثة ومشاهداته الحياتيّة وقراءاته في آداب القرون الوسطى والآداب الشّرقيّة، لم يسبقه إليها أحد من كتّاب عصره. نصوص سرديّة تدعو إلى نبذ القيم القديمة وامتداح الحياة الواقعيّة الحرّة والملذّات الدنيوية، عكس أدب تلك المرحلة الذي مثّلتْ ذروته “كوميديا دانتي الإلهيّة”، وقصائد “بترارك” التّأمليّة.
انطلق كتاب الأيّام العشر من لحظة مأساويّة، كاشفاً عن إمكانية تجاوز البؤس والسعي لحياة أفضل. ساعياً لجلب المتعة للقارئ، والترويح عن النفس. هذه اللّحظة المأساوية قرّبته من اللحظة المأساويّة التي أنتجت ألف ليلة وليلة العربيّة. حيث كانت ساردة الأحداث تقصّ حكاياتها الماتعة تحت ضغط فكرة القتل. ورواة الأيام العشرة يسردون قصصهم تحت وطأة الخوف من الطّاعون. ويتطلّعون إلى عالم تنفتّح فيه البوّابات المغلقة أمام الحبّ والحياة والمتعة والحريّة. هذه التّناصّات بين السرديّة الإيطاليّة والسرديّة العربيّة الأقدم زمناً. تؤكّد مقولة مهمّة مفادها: أنّه لا وطن للحكاية كما يقال. و”لا يوجد معلّم واحد، يُنجز كلّ الأشياء بصورة جيّدة وكاملة”. والملاحظ أنّ كاتب الأيام العشرة لم يجد حرجاً في إسقاط رؤيته الشخصيّة على الأحداث، والتدخّل حين يرى ضرورة لذلك، بهدف ترميم ثغرات الرواة. معلقاً وشارحاً لمواقفهم المحرجة أحياناً، وكأنّه يعتذر للقارئ. كما أنّه كان يخترع قصصاً واقعيّة موازية للحكايا الأصليّة، ويعلّق متهكّماً على سلوك رواته الذين انتهت قصص بعضهم العاطفيّة إلى نتائج مأساويّة. هكذا استطاعتْ سرديّات “الديكاميرون” الإيطاليّة أن تقدّم للقارئ المهتمّ لوحات بانوراميّة عن عصر النهضة الأوروبي المشرف على تحوّلات جذريّة كثيرة مؤجّلة، راصدةً ما كان يجري من أحداث سريّة خلف الأبواب المغلقة، حيث وُصفَ الكتاب بأنّه أشبه بـ”حديقة ملذّات دنيويّة”. وقد عمد المترجم المعروف “صالح علماني”، إلى ترجمته بشكلٍ متكاملٍ عن النّصّ الأصلي، بعد أن كانت تجري ترجمته مفرّقاً، وبتصرّف، كقصص مسليّة مختصرة، احتراماً للمحرّمات العربية حسب مبرّرات المترجمين السّابقين.
أوس أحمد أسعد