تقاسيم على درب الآلام الفلسطينية في “ثقافتي هويتي”
حلب – غالية خوجة
في إطار فعاليات أيام الثقافة السورية “ثقافتي هويتي” بحلب، عرضت مساء الخميس الماضي المسرحية الفيلمية “تقاسيم على درب الآلام”، أو كما جاء في بطاقة المسرحية “وحيد القرن”، على منصة نقابة الفنانين بحلب، وهي من إنتاج مديرية المسارح والموسيقا، للفنان الممثل والمؤلف والمخرج العربي الفلسطيني زيناتي قدسية، ومشاركة كل من محمود خليلي ويوسف المقبل وسوسن أبو الخير وقصي قدسية وآخرين.
حضرت فلسطين كثيمة موضوعية للعرض الذي عكس الصراع العربي الصهيوني بدرامية تراجيدية تغريبية، ارتكزت على محور رمزي بسيط وإنساني وتجذيري هو الزهور التي يعتني بها البطل الأساسي فريد رؤوف المقدسي، والذي يشير بمعنى ما إلى الكاتب إدوارد سعيد، ويحملها في قلبه وروحه وحقيبة سفره، لتكون المرآة الانتمائية لفلسطين العربية والقدس عاصمتها الأبدية.
احتلال العقل الباطن الفردي والجمعي أيضاً
وتكشف المسرحية عن كيفيّة توظيف الكيان الصهيوني الإرهابي مخابراته الموسادية وزنازينه الواقعية والافتراضية والنفسية، لكل شاردة وواردة، من أجل استكمال مشروعه الاستيطاني، لذلك، اتّسم العرض باللعب على الانتزاع الجواني لأصحاب الحق والصمود والمقاومة، والتغلغل من خلال النفس وعلم النفس والباراسيكولوجي إلى العقل الباطن لانتزاع الإنسان العربي من ذاته وكينونته وأرضه ووجوده، وذلك تحايثاً مع انتزاع الباطن الجمعي أيضاً بكافة الوسائل الممكنة من خلال العمل على البعد المحوري الثاني السوسيولوجي، أي علم النفس الاجتماعي الجمعي عربياً وعالمياً.
الوقاية بالجنون والنجاة بالاعتراف
المسرحية بمشاهدها ولوحاتها وطريقة تجاذبها التشويقية، وتحليلاتها المنبثقة من محاور مفصلية عديدة، منها توظيف “الجنون” كتهمة أساسية افتراضية وواجبة تنفي بقية التهم والجرائم والجنح عن المصاب بها، وضمن هذا السياق، تتحرك الشخوص ومنها ابن عم فريد شكيب، وعناصر المخابرات الصهيونية العالمية ومافياتها وأشباحها، وما تفتعله من أوهام وهذيانات وكوابيس وضغوطات تداخلت دلالاتها مع جملة ساخرة اختزلت المعاني العميقة: “مخابرات خاصة للخيال”!.
وهذه الشبكة الدلالية بكافة مفرداتها الصريحة واللماحة اشتبكت مع سلوكات الشخوص المعادية، ومنها الجراح داوود وعصابته ومافيته أمثال ديفيد وسيمون وشمعون وابراهام، لمحاربة فريد المقدسي المتعلق بالأرض ومريم العذراء، والذي توفيت زوجته إبان انتفاضة الأقصى 2002، وذلك بعد القبض عليه ووضعه في زنزانة، ثم الدخول عليه من بوابات العزلة وحرب الأعصاب والنفس للوصول إلى عقله الباطن وحضّه على الاعتراف بالجنون بدءاً من بوابات (العزلة، الزنزانة، الحصار): ليقال له: “العزلة تثير الشكوك”، “الزهور حجة”، “حدائقك سياسية”، “الجنون تهمة واهية في صالحك تقيك من جميع التهم”، “كلكم تشكلون لنا ألغاماً موقوتة”، “عليك أن تطرد الظنون السوداء تمهيداً لإعلان دولتنا اليهودية”، “اعترفْ وإلاّ..”. وهذا جزء من الصراع الدرامي التراجيدي بين الذات والذوات الأخرى، ظهرت أيضاً في قاعة محكمة الاحتلال المردّدة: “اعترفْ وإلاّ”، وبين اعتراض وصمود المقدسي فريد الذي يصرخ: “إلى أي جحيم تدفعني؟!”، فتأتيه الإجابة: “أنت متهم بالفطرة”.
وتزداد الضغوط السوداوية مع ظهور شكيب ابن عم فريد في المحكمة، ليقول: “حاولت أن أفهمه، كم نصحته”! لتخلص المحكمة إلى حكمها بالقتل الموقع بهذه الجملة: “ليس عاشق زهور، بل عاشق أرض”، وهنا، يقول فريد: “في عبق كل زهرة من زهور مدينتي براءتي، في كل حبة تراب في أرضها، في كل نسمة هواء من نسماتها، أمّا أنتم فكلكم دخلاء على هذه الأرض”.
صراع النور والظلام
وتتقاطع هذه المشهديات المسرحية مع صوت كلّ من الموسيقا والجوقة والراوي، ليظهر الصوت المعادي الصهيوني وهو موقن حقيقته الذاتية الباطنية باختصاصها المفبرك: “هات 5 شيكل وأنا أحكي لكم حكاية مفبركة، أحداثها مفبركة، وأنا مفبرك”.
إضافة إلى ذلك، وظفت المسرحية السينوغرافيا بما يتناسب غالباً، لولا الإضاءة التي كانت خافتة وواحدة تقريباً، ولولا غناء الجوقة الذي جاء معادياً في لحظة إطلاق الرصاص والموت على البطل فريد، لذلك تساءلت: لماذا لم تنشد الجوقة في لحظة القتل “موطني الجلال والجمال”؟.
ومن منظور آخر، حضرت وسائل الشعوذة والكذب والنفاق والعربدة والجنس والمجون وعبادة الشيطان، لتجعل هذا الكيان يصطلح على نفسه كما جاء في المسرحية “عراف المستقبل البشري”، وتجعله يزداد طغياناً: “تطهير التاريخ، يقول الإله ربنا..”، وكان حضور مقول الرب مطولاً في المسرحية ومباشراً، ولا ضرر فيما لو حذفنا أغلبه.
ولا بد من الانتباه إلى اللونين الأبيض والأسود، وأولهما الأبيض الحاضر في أزياء فريد وأزهاره كدلالة على النور والحق والعزلة والجنون والمصحة، والأسود الذي اتشحت به الأماكن ومنها المحكمة والحصار والأشباح والشخصيات الاحتلالية المعادية، لينجز اللونان صراعاً درامياً إشارياً آخر، تكمله سلوكات شخصية فريد المقدسي ومنطوقها: “هذه الأرض أرضي، لا يجوز المساس بها، وستخرجون منها عاجلاً أو آجلاً”.
وأيضاً، استطاع قدسية أن يحوّل الصراع الداخلي للذات إلى شخوص أخرى مع الموسيقا وآلاتها مثل أدوات النفخ والقرع والأصوات الأخرى والمشاهد التعبيرية وحركات الأداء وملامح الممثلين، منجزاً الحالة المتداخلة ما بين المضحك المبكي.
الجلسة الحوارية
لكن، ماذا لو تمّ الاستغناء عن بعض المنطوقات المباشرة، واختزال بعض المشاهد التي أطالت الوقت فقط؟ وماذا لو تمّت الاستعانة بالصمت والرمزية والموسيقا التصويرية للتعبير عن كثير من الكلام التقريري؟.
هذا ما أكدت عليه الجلسة الحوارية التي رأى فيها أنور محمد عرضاً مباشراً متداولاً فجاً، وأن ما شدّه كانت الحبكة البوليسية المباشرة والمشوقة، لكنها مقولة مكررة بالصور البصرية والنصوص الأدبية، مضيفاً: رسالة العرض مؤثرة، لكن، من الجهة الفنية كانت فجة كثيراً، تقريرية إعلامية، وفق قدسية في إطلاق الرمز في النص، لكنه أخفق في إخراجه.
وبدوره، تداخل مدير الجلسة الفنان حازم حداد: حياتنا أصبحت تقارير من هذا النوع، ألا يحق للعربي الفلسطيني أن يصرخ بقضيته، وخصوصاً لمن تبقّى من العرب؟ أليست هذه مسؤولية أخلاقية كون الفنان زيناتي قدسية عربياً فلسطينياً؟ ليقرع أجراس الإنذار، وتعود الكنائس إلى مكانها، والأجراس إلى كنائسها؟ والأرض لأصحاب الأرض؟.
وفي الختام، قرأ حداد رسالة زيناتي قدسية التي يحيّي فيها حلب الثقافة والفن والجمال والحب.