ثقافة

أن تكون.. أباً

“أبي إذا لم تحبَّني فلن يحبَّني أحد في الدنيا بأسرها، وإذا لم أحبَّك فلن أحبَّ أبداً”
“صموئيل بيكيت”
بعضنا يسمِّيه فنَّ الأبوة، لأنَّه بحاجة إلى مواهب معيَّنة، ومختصُّون يسمُّونه علم الأبوة، له قوانينه وقواعده المنضبطة، فهل الأبوة غريزة في الرجل مثل غريزة الأمومة عند المرأة، إذ كلُّ من تزوَّج، وأنجبت له زوجته يتحوَّل تلقائياً إلى أب؟ وهل جميع الآباء يتقِّنون علم التربية؛ فيربُّون بطريقة صحيحة وسليمة؟ أم يحتاج الأمر إلى تهيئته من النواحي المعرفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة. فالأب ليس من يمنح اسمه لأبنائه، ويوفِّر لهم فحسب الطعام والمسكن والملبس، وكفانا الله صعوبة اجتراح طرائق التربية الحديثة، لأنَّ  له دوراً أهمَّ بكثير من ذلك كلّه، وعليك أيُّها الرجل استبصار هذا الدور الضروري بالتدرُّب والمثابرة لتحقيقه بالشكل الأمثل، لأن الوضع الطبيعيَّ لأيِّ أسرة حاليّاً أنَّها مكوَّنة من أمّ، أب، وطفل أو أطفال تتعاظم مهمَّة الوالدين أكثر فأكثر مع حدوث متغيَّرات معاصرة بابتعاد الجدَّات والعمَّات والخالات – الأقارب عموماً – عن الأسرة، وقد كانوا قديماً يلعبون دوراً كبيراً في التربية، وذلك أنَّ الزوجين أصبحا يعيشان الآن تحت سقف مشترك مغلق عليهما، ممَّا يحتِّم قيام الأب بدور أكبر بالتعاون مع الأمِّ في تنشئة أطفالهما، وضرورة حضور الأب دائماً حتَّى يبقى موجوداً في حيز شعور أبنائه.

لا للضرب والألفاظ المؤلمة
في مجتمعنا عرفٌ قديم يؤكِّد أنَّ تأديب الطفل هو بنهره وتعنيفه، حتَّى ضربه حيث الضرب لا يميت الولد كما يشاع، والعصا من الجنَّة مثلما يزعم كثيرون. وإن كانت هذه الأعراف البالية هي السائدة في مجتمعنا، فإنَّ نظرة المجتمعات الأخرى إلى الطفل تختلف جذريَّاً. فهناك للأطفال الأولويَّة إذ ما إن يحضر رجل – أو امرأة – معه طفل إلى حافلة نقل حتَّى تستبشر وجوه الركاب، ويروحون ينظرون إليه بفرح، وربَّما يلاطفونه بكلمات عذبة، ويقدِّمون له بعض السكاكر، بينما ترانا إذا جاءت امرأة، أو رجل، معه طفل، أو مجموعة أطفال، اكفهرت وجوهنا، وأبدى بعضنا امتعاضه، فالأطفال مزعجون، ويضايقون من حولهم، وربَّما في هذا الأمر الجوهريِّ تكمن معالم الثقة العالية بالنفس عند الشباب في تلك المجتمعات، وملامح عدم الثقة عند شبابنا: إنَّه الموقف من الأطفال، وكما تربينا سابقاً نربِّي أبناءنا على الرغم من أنَّ عصرنا مختلف.. ويطرح العلم هذه الأيام نموذجاً معاصراً للتربية الحديثة، يقوم على تعزيز ثقة الطفل بذاته، واحترامه لها، حتَّى يشّب شاباً واثقاً من نفسه، ورجلاً يعتدُّ به في المستقبل.
وقد أثبت علم النفس أنَّ الأطفال الّذين تعرَّضوا في صغرهم للضرب يفقدون ثقتهم بأنفسهم، وينعدم لديهم الإحساس بالأمان في مراحل أعمارهم المتقدِّمة كما تؤكِّد الأبحاثُ العلميَّة أنَّ التوبيخ الكلاميَّ، وإسماع الأبناء سيل كلمات جارحة، لا يقلُّ خطورة عن الضرب، لأنَّه يحدث آثاراً سلبية على نفسيَّة الطفل، إذ يتضرَّر احترامه لذاته كثيراً، فحين نعاقب أبناءنا، بوسيلة أو بأخرى، نعطيهم الإحساس بأنَّهم عديمو القيمة بينما يفترض بنا أن نعالج المواقف التي يسيء فيها أبناؤنا التصرف بالترويِّ، ورؤية الموقف من جميع جوانبه.

هل أنت أب فعلاً؟!
يعتقد الأب في مجتمعنا أنَّ مهمَّته توفير احتياجات أفراد أسرته، فيحضر لهم ما يأكلون ويشربون ويلبسون.. أمَّا باقي عملية التربية فتقوم به الأمُّ، وقد حفظنا منذ نعومة أظفارنا أنَّ الأمَّ مدرسة، فهي في الأساس الموكَّلة بتربية الأبناء، والإخفاق إخفاقها حيث نلقي اللوم الجارح عليها إن فشلت في تأدية مهمتها المنوطة بها، ومع أنَّ دور الأمِّ مهمٌّ جدَّاً في مراحل الطفولة الأولى، لكنَّه غير كاف، فوجود الأب في حياة ابنه، وفي حيِّز شعوره الذاتيِّ، ضرورة  لاستمرار اتزانه النفسيِّ حيث أنَّ الأب يمثل القدوة في قابل أيام ابنه لا سيَّما إذا كان ذكراً.

من تجاربهم
عام 1800 ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية حالات أساء فيها الآباء إلى أبنائهم فتشوَّه بعضهم، ومات آخرون، أو أصيبوا بعاهة مستديمة، ما أدَّى إلى طرح هذه المشكلة على بساط البحث العامِّ، جرت مناقشات، وألقيت محاضرات أشبه بجلسات العلاج، أو الإرشاد النفسيِّ، بدأت بالمقبلين على الزواج لتأهيلهم للتربية الحقَّة، ثمَّ الَّذين تزوَّجوا حديثاً، وليس لديهم أطفال، بعد ذلك الآباء الَّذين يعانون مشكلات حياتيَّة مع أولادهم، وتشكَّلت جمعيات كثيرة لم تكتفِ بالمناقشات والمحاضرات، بل أصدرت مجلَّة الآباء عام 1850 ومطبوعات أخرى مهمَّة، تثقّف الآباء وتعلَّمهم، علم الأبوَّة، أخيراً ظهرت إلى الوجود دور الحضانة ورياض الأطفال لتقدِّم خدماتها الفعليَّة في كيفيَّة التعامل النفسيّ والتربوي، مع الطفل وصولاً فيما بعد إلى قوانين ملزمة صارمة تضبط علاقة الوالدين بأبنائهما.  فلا تترك – الأب أو الأمَّ – يتصرف كأنَّه، المتحكِّم بحياتهم كيف يشاء.

مبادئ أوليَّة جديرة بالانتباه
ولأنَّ العديد من دراسات علم النفس تشير إلى عدم وجود ما تسمَّى غريزة الأبوة عند الرجال عكس الحال لدى المرأة، وغريزة الأمومة المتجذِّرة فيها، فعلى الأب أن يشعر أبناءه بمحبَّته وعنايته بهم منذ وقت مبكِّر في حياتهم.
ـ عليه أن يخصِّص وقتاً، يقضيه مع أولاده حتَّى يشعرهم بأنَّه على تواصل دائم معهم، وبالتالي كي يحسَّوا بالتوازن والأمن النفسيِّ المطلوب بحياة سويَّة يعيشونها.
ـ أن يعمل على إشاعة جوِّ الودِّ والوفاق والتسامح في الأسرة من خلال اتفاقه مع الأمِّ على طريقة تعامل مشتركة مع الأبناء، لأنَّه ليس أخطر على تنشئتهم من اختلاف الأبوين في طريقة معاملة أبنائهما.
ـ أن يكون قدوة في أقواله وأفعاله واضعاً نصب عينيه أنَّ هذا الكائن الصغير هو مخزن ذاكرة وحافظة لجميع سلوكيات وتصرفات أبيه، وسوف يواجهه بذلك في أيام مراهقته على الغالب.

شراء أب “قصَّة روسيَّة”
مات والد إيفان وهو يعيش مع أمِّه الآن مؤرَّقاً بالسؤال التالي:
ـ لماذا لا يكون لي أب مثل باقي الأطفال، أشعر معه بالأمان؟!
ذات يوم استبدَّ به الحنين، فذهب إلى السوق، ولمح مانيكاناً على هيئة رجل يعرض بزَّة للبيع، فدخل إيفان إلى المحل مسرعاً وبكلِّ شوق ولهفة سأل البائع:
ـ ما ثمن هذا الرجل المعروض في واجهة محلك؟!.
ـ ماحاجتك إليه؟!…
ـ كي يصير أبي يا سيِّدي.
أخيراً وفي هذا الصدد تبتعد التربية الحديثة عن العشوائية وتقليد الآخرين، فلان فعل كيت وفلان فعل كذا، فهي مبنيَّة على آخر ما أنتجته المعرفة الإنسانية المتراكمة، وما توصلت إليه المعلومات والأبحاث العلميَّة الدقيقة من طرائق صحيحة للتعامل مع أبنائنا، أطفالنا الأعزاء مستقبل البشرية الواعد بكل خير وعطاء.

أيمن الحسن