الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ما بدا.. من الجبل!

حسن حميد

أكاد أكون على يقين أن أكبر مثلبتين تلفّان عالم الترجمة هما: عدم ترجمة الآداب العالمية على نحو متواصل من القديم والأقدم إلى الحديث والمعاصر، والمثلبة الثانية: هي اعتماد الانتقائية في اختيار هذه الأعمال لأن مخاطر هاتين المثلبتين كثيرة ومتعددة.

أقول هذا، وأنا أرى منذ أربعة عقود، جهود المترجمين متواصلة بغية نقل آداب بلدان أمريكا الجنوبية الناطقة شعوبها بإحدى اللغتين: الإسبانية والبرتغالية (بسبب احتلال إسبانيا والبرتغال لهذه البلدان)، ولكننا إلى هذه الساعة لم نترجم إلا القليل من هذه الآداب التي عرفت شهرة واسعة في العالم، والتي أكّدت أن أهم من يعرّف ببلاده هو الكتاب الأدبي لأنه يجسد حراك الناس، ويرسم مشاعرهم وتفاعلاتهم الاجتماعية.

وقد دفعني إلى هذا القول رواية صغيرة، من مئة صفحة، أهداني إياها الأديب سهيل الشعار، عنوانها /راوية الأفلام/ وهي للأديب التشيلي إيرنان ربييرا ليتلير (مواليد 1950)، وقد ترجمها المرحوم صالح علماني، ومع أن صداقتي وإياه قديمة وعريقة إلا أنني لم أقرأ هذه الرواية، ولم أعرف أنه ترجمها، والسبب يعود إلى الانقطاعات التي سببتها العشرية الدموية المنصرمة التي عشناها في سورية، فقد طبعت هذه الرواية خارج الأراضي السورية، وهي قائمة على سرد بديع يصوّر لنا حياة أسرة مؤلفة من سبعة أشخاص، الأبوان، وأربعة أولاد ذكور، وابنة وحيدة ستقوم بدور راوية الأفلام، وستكون هي العين الكشَّافة لأحوال الأسرة، ومن خلال هذه الأحوال سنعرف أحوال الآخرين والبلدة والطقوس الاجتماعية التي يعرفونها.

الرواية تتحدث عن أب نصف مشلول بسبب حادث، كان يعمل في منجم ملح البارود القريب من المخيّم، وفي صحراء (البامبا)، بيوت سكان المخيم على أنواع ثلاثة، العمال يسكنون أكواخ صفيح التوتياء، والموظفون يسكنون البيوت الطينية، أما الشاليهات الضخمة فهي للمدراء.

إحدى أهم التسالي في هذا المخيم تتمثل في مشاهدة أفلام السينما، وقد تعلّق الأب بالسينما، لكن شلله النصفي حال بينه وبين الذهاب إلى دار السينما الوحيدة، ابنته (ماريا) هي التي تذهب إلى دار السينما، وتحضر الأفلام ثم تعود لترويها لوالدها وإخوتها، أما الأم فقد هجرت الزوج وأولادها بعد أن أصبح زوجها مشلولاً، والأب يكبر الأم بـ25 سنة، وهي جميلة جداً، تغادر المخيم لتعمل في فرقة السيرك المتنقل، كانت (ماريا) بارعة في رواية الأفلام لأبيها وإخوتها حتى ذاع صيتها، فصارت راوية الأفلام للأُسر التي لا تستطيع توفير النقود ثمناً لتذاكر دار السينما، وللنساء الأمّيات حين تكون الأفلام مترجمة، وقد خدعها آخرون، لهم مقاماتهم، واستدرجوها لكي تروي لهم بعض الأفلام، لكنهم اعتدوا عليها، ولا سيما المرابي، ومدير المخيم، وقد أخبرت أخاها الكبير، فقام بقتل المرابي.

تتمزق الأسرة مثل صفحة كتاب، بدءاً من هروب أمها، إلى غياب إخوتها، أحدهم ذهب إلى السجن لأنه قاتل، وثانيهم ذهب مع فريق كرة قدم، وثالث يموت في حادث دهس، ورابع يعشق أرملة ويذهب معها، ثم يموت الأب، ثم ينتهي المنجم، فيغادر الناس المخيم، وتبقى (ماريا) راوية الأفلام لتعمل دليلة سياحية تعرّف زوّار المكان به.

الرواية عرّفت بصحراء تشيلي، وبعمال المناجم، وذكرت بما كتبه إميل زولا عن مناجم الفحم، كما عرّفت بالمكان الطارئ (المخيم)، وبالمكان الذي يفقد ثروته (المنجم)، وباجتماع الناس وانفضاضهم، وكأن الأمر يشبه عشاً غادرته الفراخ.

رواية متعة في موضوعها، ومتعة في أسلوبها، ومتعة في تصويرها للسينما حين تغدو هي الحياة وما فيها من جمال، رواية تؤكد أن ما عرفناه من روايات أمريكا اللاتينية ليس سوى ما يبدو لنا من جبل بعيد غارق في ضباب عميم حميم!

Hasanhamid55@yahoo.com