وجه في قطار!؟
د. نهلة عيسى
نحن، وأعني بـ “نحن”، أنا وأنتم، “كومبارس” في وطننا!؟ أول من يدفع وآخر من يعلم، فما الحل، وأمامنا بحر من الظلمات، وخلفنا ضباب، ولا مفر، ومرايا الغد تعكس الأمس، لكن ربما يغيب عمّا تعكسه الآن، اليأس المضمر تحت الأقنعة، والخوف المحق للموغلين في دمنا، من مصير مشابه لما قادونا له، والعلم المؤكّد أن لا طاقة لهم على مثل صبرنا، وأن سيناريوهاتهم ستمضي بهم إلى حيث لا يدرون ولا يريدون!؟.
ما الحل؟ والوقوف على الأطلال لن يعيد سورية التي كانت، ولن يبني سورية التي نريد، لأن ما أخذته منا الحرب ونحن أقوياء، لن نعيده ونحن نعرج، ما الحل؟ ووطننا بات نشّافة لكل عدوانية العالم وجنونه وحماقاته، ما الحل؟ والرغيف سيبقى عقدة يومنا، والصلاة في الأموي لن تدفع البلاء، ولا أظن أن أحداً يملك جواباً لغدنا سوى السماء!؟.
ما الحل!؟ الحل يا سادتي، بلا تنطّع ولا ادّعاء، هو ما نفعله الآن، نمارس حياتنا كما عشناها دوماً، نخمّن أسماء الوزراء، ونشتكي من الغلاء والكهرباء، وندخّن سجائرنا على وقع نشرات الأخبار، ونرسم جدول الغد وفقاً لعدد الطوابير التي سنقف فيها، والخيام التي سنقدّم فيها العزاء، وننام ويقين الأنبياء في قلوبنا، أن الوطن عائد للمقاعد الأمامية، ولو كره الأشقياء، وسينامون مثلنا الأشقياء، شاكرين لهم تعاونهم، أنهم يمارسون دور “المشجب” للخيبات!.
ورغم أنني في عملي الإداري في الكلية، أكثر ما يغيظني في العمل، هو ذاك الجحيم الكرتوني الداجن، المشاد بطوب المقنن، والمكرّر، والمنمّط، والمعادي للابتكار، والدهشة، والمصاغ بعبارات التكلّف المراوغة، حمّالة الأوجه، ملقية المسؤولية عن الكاهل، والرامية بها على أعتاب الآخرين، حيث المطلوب: الاطلاع وإجراء ما يرونه مناسباً، حتى لو كان غير مناسب، مع عدم نسيان العبارات “الفخ”، لكم الأمر سيدي، أو العبارة الأقل تملّقاً: “شاكرين تعاونكم”!.
وهي (أي شاكرين تعاونكم) على كرهي لها، العبارة التي يجب قولها لـ “كورونا”، وذلك لأنها انتشلتنا من الشتات بعيد الغور الذي نعيش فيه، وأعادتنا إلى امتطاء حصان الدهشة، والترقّب، والفرح، والسخرية الذكية، وأخرجتنا من شرك التبسيط الذي سقطنا فيه في محاولتنا عبر عشر سنوات، لفهم ما جرى لنا وحولنا، وهو تبسيط لا يطيقه واقع حالنا، التي وعن عمد حوّل فيها الوطن إلى حقول من الزجاج المكسور، وفككت فيه اللغة، وتمّ الخلط بين الزمان والمكان، والمبنى والمعنى، والقاتل والقتيل، والثورة والخراب، والوطنية والإدعاء!.
حقاً يجب أن نوجه لـ “كورونا” الشكر، لأنه في شهور ردّنا إلى الوعي من رواية “ليلى والذئب”، وجعلنا نتذكّر أن الصديق الجيد هو من يطعنك في وجهك وليس في ظهرك، وأن آفتنا تكمن في أننا اختصرنا جميع الأسئلة في “ماذا؟”، بينما تكمن المعرفة الحقّة في مصادقة الأصحاب الستة: “ماذا”، “لماذا”، “متى”، “كيف”، “أين”، و”من”، ولعل “من” في حالتنا أخطر الأسئلة وأهمها، لأن هناك مليون “من” يكذبون علينا!؟.
حقاً، بودي رغم كرهي له وخوفي منه، أن أقوله له: شكراً، لأنه دون أن يقصد، ربما يحفّز في دواخلنا العودة من موت هابيل، لمواصلة القتال دفاعاً عن حياته في حربه ضد قابيل، خاصة وأن “القبابيل” في وطننا باتوا كثراً، وصناع التوابيت يقتلون الأطباء، وحفاري القبور يتظاهرون ضد الحياة، والسيد الموت ينتظرنا عند كل منعطف طريق، ومنعطف نوم!.
بودي قولها له، وسأقولها لأن إحساساً غامضاً بالأمل ينتابني، أنني سأراقب السوريين ليلة انقلابهم، يحلّقون في مملكة الحلم، خارج الخانات، والقوالب التي عاشوها لسنين، كما لو أنني في لحظة حزن، لمحت وجه حبيب سابق عبر نافذة قطار يتهادى في إحدى محطات الماضي الماطرة، فلوّحت له فابتسم، فابتسمت، فجريت خلف القطار، قائلة للحبيب: شاكرة تعاونك!.