الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الانتماء للذات

سلوى عباس

شارفت العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين على الانتهاء ومازالت البطاقة الشخصية بما تتضمنه من معلومات حول أسمائنا وعائلاتنا وشهادات ميلادنا هي جواز مرورنا للآخر، وليس ثقافتنا وما نحمله من قيم وأفكار تعبر عن انتمائنا لأنفسنا ولوطننا الذي يحتاج منا أن نكون أكثر إحساساً بمسؤوليتنا تجاهه، وهناك كثير من المثقفين الذين ينظّرون بالانتماء للثقافة والأفكار والقيم، لكنهم في الحقيقة ليسوا إلا أوعية ثقافية انتماؤها شكلياً وظاهرياً بعيدون عن التزامهم بمسؤوليتهم تجاه هذه الثقافة والأفكار التي يدّعون تبنيها، وهؤلاء ليس لديهم أي مشروع ثقافي، فالثقافة بالنسبة لهم لا تتجاوز هذه التنظيرات، ونراهم تحولوا إلى أعداء لبعضهم ولم يعودوا يؤدون دورهم التنويري الواعي القائم على الخلق والابتكار والتجديد في الحياة، لذلك لابد من تعزيز وتكريس قيم وتقاليد جديدة تعمق الثقافة كانتماء ينمي الاحساس بالمسؤولية ويفتح الآفاق أمام الثقافة المنفتحة على الآخر بكل قيمه وأفكاره، لا أن تكون الثقافة قائمة على أفكار أشخاص يتاجرون بها من خلال موقعهم الثقافي في المؤسسات المشرفة على الثقافة، وحصرهم الثقافة في بوتقة رؤيتهم وانتماءاتهم الضيقة، فالثقافة هي منقذنا الوحيد من متاهاتنا، وإذا كنا  نحمل انتماءات عائلية قد لاتتفق مع البعض، فإن هذه الانتماءات يجب ألا تكون قيداً على عقولنا وتبقينا غارقين في محيطها الضيق دون أن نعطي أرواحنا فسحة من الحرية والانطلاق لنعيش الحياة برحابتها وانفتاحها، لا كما يحاول أن يفرضها علينا ضيقو الأفق، فنرى كل مواطن من موقعه يعبر عن فرحه بانتمائه لأم الكل سورية، فلا تغيب من مخيلتي صورة ذلك السائق الذي بدأ حديثه معي عن معاناته من أعباء الحياة ومتاعبها وحالة اللهاث اليومية التي أرهقته، لينتقل إلى الشكوى من الازدحام المروري الخانق الذي عزاه -في ذلك الوقت- لانعقاد مؤتمر اللاجئين، واسترسل في الحديث عن الدول المشاركة فيه ومن تخلّف عن الحضور اتهمه بالانحياز للمشروع الأمريكي – الصهيوني، وكانت لمعة عينيه تشع بالفرح وهو يحدثني عن حبه لسورية واعتزازه بالانتماء إلى تلك البقعة من الأرض التي كانت على مر العصور منارة لكل العرب، وعبّر عن استيائه من الذين لا يقدرون قيمة وجودهم في هذا البلد المعطاء الذي يمثل الملاذ الأول لكل إنسان، ويجهلون أهمية كل خطوة ترتسم على أرضه.. هذا السائق أنموذج للمواطن السوري، الذي يدرك معنى الحياة التي تجمعه مع الآخر المختلف بأفكاره وسلوكه وحتى نظرته للحياة وأسلوب تعبيره عن انتمائه لها، فهذه هي ثقافة المواطنة التي تعني الانتماء للحياة بكل رموزها وقيمها، هي ثقافة الإرادة الإنسانية التي تعلو على كل الثقافات الجزئية، فما يعيشه الإنسان من حالات تصبح جزءاً من وعيه لانتمائه الوطني، وهؤلاء الناس المتقدة قلوبهم بشعلة الإيمان والأمل على تجاوز محن الحياة هم من يملكون القدرة على صياغة الحاضر والمستقبل بإرادة وتصميم على مواجهة كل التحديات.

“الانتماء الهوية” هو أن يكون ضميرنا حاضراً في أعمالنا، نحاسب أنفسنا ماذا قدمنا للوطن، وكيف خدمناه، وحافظنا عليه، لا أن يقتصر تفكيرنا على ماذا استفدنا من هذا الوطن، وكيف نحقق مكاسبنا ومصالحنا على حسابه، ومن هذا المنطلق تتجلى تكاملية العلاقة وعمقها بين الوطن وأبنائه على اختلاف مواقعهم، هذه العلاقة المتجذرة في وجداننا، ومتى أدركنا أهمية تلك العلاقة فإنه من الطبيعي أن يقوم كل منا بالسعي لتنميتها بإخلاص وتفان، لكن انتماءنا الأهم ينطلق من انتمائنا لذواتنا، هذا الانتماء الذي يمثّل الرافعة الأساسية لأي انتماء نعيشه، فمن اهتم بانتمائه الذاتي استطاع أن يعكس هذا الانتماء على مفاصل الحياة كلها.