مجلة البعث الأسبوعية

“دروب معبدة بالآلام”.. حكاية وطن

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

“من يكتب التاريخ؟” سؤال يتردد دائماً، فتأتي الإجابات مختلفة، إذ هناك من يرى أن التاريخ يكتبه القوي وآخرون يرون أن المنتصرين والمهيمنين هم من يكتبون التاريخ، والتساؤل الذي يحضر هنا: هل يمكن كتابة التاريخ بموضوعية وحيادية؟ لتأتي الإجابة بنعم، لأن التاريخ يكتبه من عاش التجربة بصدق وأمانة، وهذا ما يقدمه لنا كتاب “دروب معبدة بالآلام” لمؤلفة سفير سورية للإنسانية والمحبة، سليمان حداد، الذي حمل رسالته في حياته بوجهيها الإنساني والوطني بإدراكه لمسؤوليته، وقد حضر بكل تواضعه ورقيه يستقبل ضيوفه الذين حضروا أمسية توقيع كتابه في المركز الثقافي العربي بدمشق- أبو رمانة – فكانت أمسية فسيحة القلب كالسماء تضم أبناءها إليها كما أغنية تبث بحروفها أفراحهم وآلامهم، ترسم لقلوبهم لحظات توهجها وتزينها ببوح الياسمين، يتوقون لنشاطات وفعاليات تتجسد واقعاً من حلم وجمال، وحين يتبدى هذا الحلم تورق أشجار الزيتون بقصائد لقاءاتهم، هذه اللقاءات التي ترجمت في هذه الأمسية التي حسبت – عندما دُعيت إليها – أنها لن تختلف عن سابقاتها من توقيعات الكتب التي لطالما جسدت طابعاً من البهرجة الاجتماعية أكثر من كونها فعلاً ثقافياً، لكن الأمر كان مفاجئاً بكل تفاصيله، بدءاً بالمداخلات التي قُدمت بالكتاب من قبل أصدقاء المؤلف، مروراً بالقاعة التي غصت بالحضور حيث بدا الجميع في حالة من التكافل لم يُعرف فيها من المحتفى فيه، فبدا الكل معنيون بالمشاركة، الأمر الذي بتنا نفتقده في أمسياتنا الثقافية. ليتحول حفل التوقيع إلى مهرجان ثقافي بكل ما تعني الكلمة من معنى، وقد كان للشاعر الراحل سليمان العيسى، رفيق درب الأستاذ سليمان حداد النضالي، حضوره عبر قصيدته “دمشق كتاب الضوء”، قرأتها مديرة الجلسة الإعلامية إلهام سلطان. تقول كلماتها:

“كتاباً كنت ملء الدهر / ملء الدهر ما زلت / وأقوى قصة في الأرض / بين جوانح التاريخ غلغلت / تلمون البقايا / من عبيري / ساطعا أبداً وترتجلون عاصمة من اسمي / أي لفظ يبقى خارج الكلمات إن قلت؟ طبعت حكاية الأمجاد باسمي / في حنايا النور / في حلل الدمقسي / مليكة جلت / أذيعوا ياسميني في الدنى / لا بأس / قولوا ملء حنجرة العلى / إني كتاب الضوء، ملء الدهر.. ما زلت”.

يروي الكتاب، عبر 617 صفحة، تاريخاً نضالياً لإنسان عشق وطنه، فكانت له بصمته المهمة في تاريخ سورية عبر مذكراته “دروب معبدة بالآلام”. وقد ضمن الكاتب مذكراته إضافة للسرد التاريخي لحياته شهادات لرؤساء دول ودبلوماسيين ومفكرين. وفي ترحيب الكاتب بضيوفه، قدم لهذه المذكرات إذ قال: الإنسان هوية ولا هوية بدون وطن، ونحن ندرك جيداً أن الوطن في محنة، لكن هذه المحنة تزيدنا إصراراً على التعلق به، ونحن سننتصر بإيماننا أن الوطن محبة وإخاء وأن السنابل الخضراء تنبت من وجع الأرض، فما بالكم بوجع الإنسان حيث يحوّل الوطن إلى شموخ وعزة وإباء ننحني جميعنا أمامه.. وأنا في مذكراتي التي بين أيديكم أردت أن أنقل لكم تجربة هي عصارة حياتي وتاريخ أيامي التي أعتز بها، أقدمها بصدق وأمانة، فأرجو قبولها بحلوها ومرّها، فلا الحاضر يملك أن يكون ماضياً ولا نحن يمكننا إسقاط يومنا على الأمس. هذه المذكرات هي مرآة شخصيتي والدروب المعبدة بالآلام دروبي.

وقدم أصدقاء الكاتب محطات وفاء لتاريخ هذا الإنسان ولعل في كلام د. محمود السيد ما ينصف الكاتب أنه ما من عمل أسند إليه إلا وكان فيه القدوة والمثال، مذكراته فيها متعة بقراءتها، وثمة دروس وعبر للاقتداء فيها. فطوبى لك هذه النزعة الإنسانية التي جبلت عليها. واستشهد ببيت للشاعر بدوي الجبل: “صحيح أن دروب العلا للسالكين عديدة / وأقربها للغاية الموحش الوعر”.

وتطرق د. صابر فلحوط للجانب الإنساني في شخصية الكاتب، فقد كان كبيراً وعظيماً جداً ومتنامياً إلى درجة عندما يجد رفيقاً منزعجاً من الأوضاع والأحوال، يقول له: “هوّن عليك أنا ألقيت العصا ياأيها الحامل رمحك / أشتهي خبزك في الحب وملحك” فيتحول البركان إلى ورد.

وتساءل د. فايز الصايغ: هل هي مذكرات أم هي حكمة حياة؟ فسرد الأحداث شيء والإحساس بها وبحكمتها وحكمة مؤرخها شيء آخر، حيث في هذه المذكرات تتجلى ثنائية العشق والوطن، حيث اكتمل مفهوم الحرية عنده عندما وجد عشقه في زنزانة، فكانت شريكته “أم الريم”، فأن تتعامل مع الخصم مع الاختلاف في الرأي، وتبني معه بيتاً من العزة والكرامة، هذا إعجاز، أبالحكمة يمكن أن نغير الواقع؟ أم الواقع هو الحكمة المستولدة للفكر المنفتح على الآخر، والقبول به حتى اعتباره شريك حياة؟ وأهمية هذه المذكرات أن كاتبها اليوم على قيد الحياة، وهو يحرس مذكراته، ولو لم يكن على قيد الحياة لوجد الآلاف يقولون حصل ولم يحصل.

بينما رأى د. جابر سلمان أنها رحلة عمل مذكرات تروي مسيرة حياة رجل لايعرف المهادنة في قول، يؤمن أن الكلمة الحرة تستعيد قيمتها من استعدادها لتحمل مسؤولياتها، مذكرات تستعرض أحداثاً مر بها، يسكبها على الورق كلمات يصوغ بنسجها تجربته بلسان صدق وقلب محب وهي تلخص مسيرة عمله الدبلوماسي.. مذكرات تمثل تجربة حياة بكاملها.