مجلة البعث الأسبوعية

“سوبر ساركو”.. إدانة ساركوزي بتهم الفساد تنهي الحياة المهنية لرجل أضر بفرنسا أكثر مما نفعها!!

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

.. أخيراً، أصدرت محكمة باريس الجنائية الحكم بالسجن مدة ثلاثة أعوام، اثنان منها مع وقف التنفيذ، بحق نيكولا ساركوزي، المتهم بالفساد واستغلال النفوذ، فيما يسمى قضية التنصت على المكالمات الهاتفية، أو قضية “بزموت”. ويعتبر هذا الحكم الأول من نوعه في تاريخ الجمهورية الخامسة، وساركوزي هو ثاني رئيس دولة تدينه المحكمة بعد جاك شيراك الذي حكم عليه، عام 2011، بالسجن مدة عامين مع وقف التنفيذ بتهمة الاختلاس وخيانة الأمانة العامة في قضية “الوظائف الوهمية”. ومن المقرر محاكمة ساركوزي مرة ثانية، في الفترة من 17 آذار إلى 15 نيسان، بشأن الإنفاق الزائد للحملة الانتخابية في عام 2012، والتي كشفت عنها قضية بيغماليون.

هذا الرجل ليس فاسداً فحسب، بل هو محتال ومتسلق غدر بأقوى الداعمين له للوصول إلى مراتب السلطة، اذ لا يخفى على أحد كيف غدر بـ “معلمه” شيراك وطعنه في الظهر عام 1995، عندما كان الأخير مرشحاً للانتخابات الرئاسية، وكان ينافس – آنذاك – إدوارد بالادور، رئيس الوزراء الأسبق الذي ينتمي، بدوره، إلى يمين الوسط، حيث كان شيراك متقدماً بفارق أولي في استطلاعات الرأي، لينشق ساركوزي ويقدم الدعم لبالادور، قبل أن يكتشف أنه راهن على الحصان الخطأ، فقد فاز شيراك في تلك الانتخابات، ودفع ساركوزي الثمن بقضاء السنوات السبع التالية بدون أي منصب حكومي. مع ذلك، لم يتوقف عن المحاولة، حيث أسفرت تقرباته عن عقد صفقات “ذكية” آلت في نهاية المطاف إلى تعيينه وزيراً خلال فترة ولاية شيراك الثانية. ولكنه سرعان ما عاد إلى حياكة المؤامرات عند تسلمه حقيبة الداخلية، وبدأ التحريض على رئيسه للتخلي عن فكرة الترشح لولاية ثالثة. وبالفعل، لم يرشح شيراك نفسه مرة أخرى، وزيادة على ذلك دعم حملة ساركوزي عام 2007. ولكن مرة واحدة كانت كافية فقد صوت شيراك، عام 2012، لفرانسوا هولاند، الخصم الاشتراكي لساركوزي.

ورغم حدة الخلاف بينهما، فإن شيراك وساركوزي هما الرئيسان الفرنسيان الوحيدان اللذان أدينا بارتكاب جرائم سياسية بعد الحرب العالمية الثانية. ووفقاً للمعلومات التي تم الحصول عليها أساساً من التنصت على المكالمات الهاتفية، فإن ساركوزي كان يلمح إلى احتمال حصوله على منصب رفيع أمام قاضٍ رفيع المستوى، على أمل أن يتلقى في المقابل معلومات سرية تتعلق بقضية فساد أخرى مرفوعة ضده. هذا الحكم أبطل أفضل فرصة لساركوزي بالعودة إلى السلطة، فبعد إعلان الحكم، استبعد علناً خوض سباق آخر، في عام 2022.

كقوة أساسية في السياسة الفرنسية، ربما يكون الرجل، الذي كان يُطلق عليه ذات مرة “سوبر ساركو”، قد قابل حجر الكريستال المشع، حجر الحظ، ولكن حتى لو غادر ساركوزي الساحة السياسية، فإنها لا تزال تحمل بصماته الواضحة في انقسام اليمين، والشعور المستمر بانعدام الأمن الاقتصادي، ما يرسخ فكرة التأثير الدائم لحقبته في السلطة. ولفهم سبب ذلك، لا ضير من المقارنة برئاسة شيراك مرة أخرى، حيث قام ساركوزي بحملة ضد إرث سلفه، مثله مثل خصمه الاشتراكي، وانتقد الحكم اليميني السابق، ووصفه بأنه خامل، قانع بالوضع الراهن الراكد، وخائف من زعزعة القارب. فكان نهجه هو العكس تماماً: كل النشاط والطاقة والحركة. لكن ساركوزي كان – ولا يزال – مجرد ردة فعل بسيطة للماضي، كما أن الثقة بالنفس التي لا تخمد، والتي غذت صعوده، تؤسس أيضاً إطاراً لفهم العالم. وكما قال في مقابلة كاشفة، في عام 2007، رداً على سؤال حول بداية حياته السياسية، واعتماده على نفسه، كما يزعم: “كان علي القتال طوال حياتي، لم يأت شيء بسهولة بالنسبة لي. لم يفتح أحد أي باب لي على الإطلاق، لقد اعتدت على ذلك، وهذا هو المفتاح لأي شخص”.

يتناغم هذا النوع من التساؤلات بشكل مثالي مع الاقتصاد النيوليبرالي: إذا كانت الحياة تنافسية

بشكل غير قابل للاختزال، فإن السوق هو الحكم المنطقي للنتائج، وكما قال ساركوزي: عليك أن

تحب النجاح، وعرقلة هذه العملية الطبيعية ستكون من الحماقة في أي ظرف من الظروف..

أما بالنسبة لبلد متوسط ​​الحجم في عالم صعب، فقد يكون قاتلاً. لذلك رأى ساركوزي أن الاقتصاد

الفرنسي، بإدمانه على التدخل الحكومي، وأحكام الرفاهية السخية، والإنتاجية المنخفضة، بحاجة

ماسة إلى التصحيح.

كان الأمر لعنة على اليسار، لكنه كان أيضاً خروجاً عن التفكير الاقتصادي السائد لليمين الفرنسي الذي أقر في عهد ديغول بالحاجة إلى دولة تدخلية كبيرة. كان لرفض ساركوزي هذا الإجماع عواقب دائمة، ذلك أن القرارات السياسة التي اتخذها، مثل مضاعفة ساعات أسبوع العمل البالغة 35 ساعة، ورفع سن التقاعد، لم تفعل شيئاً يذكر لتحسين الأداء الاقتصادي الفرنسي، ولكنها أدت كثيراً إلى إفقار الطبقة العاملة التي رأت كيف أنها باتت مهددة جراء تآكل شبكة التأمين الخاصة بها، مع دفع الركود الكبير بأرقام البطالة إلى مستويات عالية جديدة؛ وهو ما دفع الناخبين إلى بدائل يسارية، وساعد أيضاً في كسر دعم ساركوزي لليمين، ما أدى إلى تأليب النيوليبراليين على النمط الأنغلو أمريكي ضد الديغوليين والمحافظين من الطبقة العاملة الذين سيجدون طريقهم بشكل متزايد إلى مارين لوبن، أي نحو الجبهة الوطنية.

من جهة أخرى، كان ساركوزي شديد الإعجاب بأمريكا في بلد غير مرتاح لـسياسة “القطب الواحد”، ومن هنا جاء لقبه “ساركو أمريكا”. وقد ترجم هذا الإعجاب إلى السياسة على الرغم من أن نهج ساركوزي الأطلسي أصبح غير عادي بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلا أنه لم يكن بدون سابقة. في هذا السياق، ذكر الصحفي الراحل جان لاكوتور في كتابه الذي تناول فيه سيرة شارل ديغول حلماً يؤطر بدقة الخيارات التي يواجهها رجال الدولة الفرنسيون دائماً بشأن هذه القضية:

حلمت بإجراء مناقشة بين أعظم اثنين فرنسيين في تلك الفترة، جان مونيه والجنرال ديغول. قال الأول للآخر: “سيدي الجنرال، أنت لا تعامل الأمريكيين بشكل لائق، ترفع صوتك، تعطيهم الأوامر. أنا أعاملهم بلطف وأستفيد منهم بشكل أكبر نتيجة لذلك”. أجاب ديغول: “لا تخدع نفسك يا مونيه! ما أحصل عليه له قيمة أكبر بكثير مما تحصل عليه أنت!”.

والواضح أن ساركوزي حذا حذو جان مونيه وانحنى بحماس إلى النهج اللطيف، أغدق المديح والثناء للولايات المتحدة، وسعى إلى تعميق العلاقات الثنائية التي شهدت برودا في عهد شيراك، عقب معارضته بشدة الغزو الأمريكي للعراق. وبعد أكثر من أربعة عقود خارج الناتو، أعاد فرنسا إلى البنية القيادية الموحدة لحلف شمال الأطلسي. وفي ليبيا، ألزم القوات الفرنسية بتدخل غير مدروس وغير شرعي على الطريقة الأمريكية للإطاحة بالعقيد القذافي. فكانت نتائج هذه السياسات المتخبطة كارثية بكل معنى الكلمة: فرنسا ذات استقلال استراتيجي أقل، ونفوذ دولي أقل، وانعدام الاستقرار في الجوار.

إن الإخفاقات والعثرات التي حدثت في زمن ساركوزي في السلطة جعلته يكون أول رئيس فرنسي يخسر محاولة إعادة انتخابه منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وقد خلفه فرانسوا هولاند، الذي، على الرغم من أنه يدين بفوزه إلى التصور الشائع بأنه “الرجل العادي” بعد الديناميكية المدمرة لسلفه، إلا أنه بدوره غادر المنصب. ولكن الرئيس التالي لفرنسا هو الذي سيظهر أنه تعلم حقاً من مثال” الرئيس الخارق” من بعض النواحي.. كان ماكرون أعظم تلميذ لساركوزي. هنا، على سبيل المثال، يقول ساركوزي قبل انتخابات 2007، متوقعاً تجاوز ماكرون للحزب: فرنسا بلدي هي فرنسا لجميع أولئك الذين لا يعرفون أساساً ما إذا كانوا يساراً أم يميناً أم وسطاً، لأنهم قبل كل شيء هم الشعب الفرنسي الكريم”. وعلى غرار ساركوزي، أدرك ماكرون جاذبية طاقة الشباب وحيويتهم، لا سيما عندما تم عرض هذه السمات من خلال استراتيجية إعلامية بارعة. وفي الملفات لتي كانت مواقف ساركوزي فيها أكثر شيوعاً مثل القانون والنظام، والقيم الثقافية – يميل ماكرون إلى اتخاذ خط الحس السليم نفسه.

لكن ماكرون يتفوق على ساركوزي في المكر والدهاء ويتمتع بالبراعة ويعرف متى يتوقف. ومع ذلك، فشل في احتواء حركة السترات الصفراء التي انطلقت احتجاجا على زيادة ضريبة الوقود، بل فوق ذلك أطلق العنان لرجال الشرطة لقمع المحتجين بطريقة وحشية. ماكرون أناني بلا شك، لكنه من ذلك النوع الذي يلتزم بأعلى المعايير، وليس الذي يمكن أن يبرر احترامه لذاته أي شيء.

الحقيقة المطلقة بشأن قناعة ساركوزي هي أنها لا تتغير إلا قليلاً، وحتى لو كان في وضع يسمح له بتحمل معايير يمين الوسط في عام 2022، فإن آفاقه، في سباق ضد ماكرون ولوبن وميلانشون، وأي شخص يرشحه الاشتراكيون، لن تكون واعدة. وبدلاً من ذلك، فإن الحكم الذي سيصدر لاحقاً ينذر بدقة بحقبة ساعد فيها ساركوزي على تشكيل معالم الساحة السياسية الفرنسية.

ربما يكون ساركوزي قد اتخذ قرارات خاطئة في أهم القضايا التي تواجه بلاده، لكنه على الأقل اتخذها بوقاحة وأسلوب. بالمحصلة ربما كان معلم ساركوزي السابق، جاك شيراك، هو الذي لخصه بشكل أفضل في مذكراته: “أحد أكثر الموهوبين في جيله، لكنه “عصبي، متهور، يغمره الطموح، ولا يشك بأي شيء، على الأقل بنفسه”.