في يومها العالمي.. اللغة العربية حضور وانتشار واسع
د. معن منيف سليمان
استرعى التوازن بين اللغات الرسمية الست: الإنجليزية، والعربية، والصينية، والإسبانية، والفرنسية، والروسية اهتمام الأمم المتحدة، واتُّخذت عدّة إجراءات منذ عام 1946، إلى يومنا هذا، لتعزيز استعمال اللغات الرسمية حتى تكون الأمم المتحدة وأهدافها وأعمالها مفهومة لدى شعوب العالم على أوسع نطاق ممكن.
وفي إطار دعم وتعزيز تعدّد اللغات وتعدّد الثقافات، اعتمدت الأمم المتحدة قراراً للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست. وتقرّر الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول، كونه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190 (د ـ 28) المؤرخ 18 كانون الأول 1973، الذي قرّرت بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. ويتمثل الغرض من هذا اليوم بزيادة الوعي بتاريخ كل من اللغات الرسمية الست وثقافتها وتطورها. ولكل لغة من هذه اللغات الحرية في اختيار الأسلوب الذي تجده مناسباً في إعداد برنامج أنشطة لليوم الخاص بها، بما في ذلك دعوة شعراء وكتّاب وأدباء معروفين، إضافة إلى تطوير مواد إعلامية متعلقة بالمناسبة.
جاء إعلان الأمم المتحدة عن تخصيص يوم عالمي للغة العربية كجزء من مبادرة أطلقتها المنظمة الدولية للاحتفال بالتعدّد اللغوي والتنوع الثقافي، وكذلك لترويج المساواة في استخدام لغات العالم الست الرسمية في الأمم المتحدة، وتسعى مثل هذه المبادرة إلى زيادة الوعي والاحترام لتاريخ وثقافة ومنجزات كل من هذه اللغات، في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للغة الأم الذي يتمّ الاحتفال به سنوياً يوم 21 شباط.
واللغة العربية من أكثر لغات العالم متحدثينَ، وإحدى أكثرها انتشاراً، إذ يتحدّث بها أكثر من 422 مليون نسمة ويتوزع متحدثوها في الوطن العربي، إضافة إلى العديد من مناطق العالم الأخرى. وهي مرجع لملايين العرب ومرجع اعتباري لنحو مليار مسلم، ورغم أنها قديمة ما زالت حيّة حتى يومنا، في وقت تتجه بعض اللغات في العالم نحو التناقص، فالعربية من اللغات القادرة على الحضور العالمي ولا يمكن لأحد أن ينكر التطور الذي شهدته، أو ينكر انتشارها الواسع وتداولها الكبير في الإعلام والاقتصاد والسياسة والتعليم.
واللغة العربية وثيقة الصلة بالإسلام، وهي ذات أهمية قصوى لدى المسلمين، فهي لغة القرآن الكريم، ولا تكتمل الصلاة والعبادات الأخرى إلا بإتقان العربية، التي هي أيضاً لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، كما كتبت بها الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية في العصور الوسطى.
وقد أثّر انتشار الإسلام، وتأسيسه دولاً، في ارتفاع مكانة اللغة العربية، فأصبحت لغة السياسة والعلم والأدب لقرون طويلة في الأراضي التي فتحها المسلمون، وأثرت العربية، تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على كثير من اللغات الأخرى في العالم، كالتركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الأفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية وخاصةً المتوسطية منها كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية. كما أنها تدرّس بشكل رسمي أو غير رسمي في الدول الإسلامية والدول الأفريقية المحاذية للوطن العربي. وهي لغة رسمية في كل دول الوطن العربي إضافة إلى كونها لغة رسمية في بعض الدول الأفريقية.
واللغة العربية إحدى أهم ركائز المشروع القومي، لأنها تمثل التلاحم الثقافي والواقعي بين أبناء الأمة العربية. والعروبة انتماء لا يتحدّد عن طريق الدّم أو النسب، إنما مفهوم حضاري يستوعب كل التعددية الموجودة على الأرض العربية ويجمعها في بوتقة واحدة. وهي في معناها الحضاري هذا نشأت من امتزاج الأعراق واختلاط الدماء في كنف حضارة شارك أبناؤها جميعاً من الروافد الإنسانية كافة في صنع قامتها الباسقة، وهي في المقام الأول رابطة ثقافية ولغوية واجتماعية صهرت العرب وغير العرب في شخصية حضارية جديدة، وهي لذلك كان لا بدّ أن تتسم بالانفتاح والتسامح والحرية والديمقراطية، لتنتج الإبداع الذي ميّزها على امتداد القرون.
إن اللغة العربية لغة قويّة يمكنها أن تصبح أكثر وظيفية وعالميّة، وهذا رهن بإنصافها، عبر تمكينها في محيطها وتعميمها، ودعم دورها في التربية والتعلم والإعداد والتكوين، من خلال تهيئة العوامل النفسية وإقامة برامج وسياسات لغوية فاعلة، من شأنها ترسيخها، والتصدي لكل محاولات طمس وظيفتها وإلغاء دورها.
إن النهوض باللغة العربية وتحديثها عبر الاستخدام في التواصل الحضاري والمعرفي والإعلامي وعبر التدريس والبحث العلمي، هو من أهم عناصر النهضة العربية، والسبيل الأمثل إلى دحض مزاعم أن اللغة العربية تعاني مخاطر الذوبان والاضمحلال والتراجع في ظل عصر العولمة.