نجيب محفوظ
حسن حميد
عادة، وحين يصبح الأديب أو الفنان أو المفكّر تحت الأضواء، تتبدّى تفاصيل حياته مثلما تتبدّى تفاصيل ما قدّمه من أدب أو فن أو أفكار، وتصير الآراء حول تجربته وحياته معاً تراكماً تبديه الأزمنة والقراءات!.
نجيب محفوظ الأديب الذي حاز جائزة نوبل 1988، باتت حاله من حال هؤلاء الذين تلفّهم الأضواء، فتتكاثر الآراء حول تجربته الأدبية وسيرته الحياتية وتتعدّد، حتى ليصير تكرار القول حول أدبه وسيرته تكراراً باهتاً بارداً لأنه لا يأتي بجديد، لأن نجيب محفوظ الذي لم يكتب سيرته بخطّ يده ويدفعها إلى النشر، قام بكتابتها فعلياً من خلال إجاباته على أسئلة الصحفيين والأدباء الذين لازموه أياماً وشهوراً من أجل كتابة أصغر التفاصيل وأبسطها لأن الأضواء لفّته، فبات مادة مهمّة، أو قل مادة منتظرة، للقراء عامة.
نجيب محفوظ المولود سنة 1911، والراحل سنة 2006 كان أديباً/ حدثاً ليس في بلاده المصرية وحدها، وإنما كان كذلك في الوطن العربي وقراء العربية، فقد عرفت تجربتُهُ قراءً لم تعرفها تجربة أدبية سابقة عليه، وعرفت شهرته فضاءات لم تعرفها تجربة أدبية أخرى، وزان ذلك أنه حاز جائزة نوبل، فنفذت كتبه مروراً وتخطت جغرافية القراءة بالعربية لأنها ترجمت إلى لغات عالمية كثيرة، وبذلك تعرّف القراء على الأمكنة العربية، وما قرّ في النفوس من عقائد، وما شاع في المجتمعات العربية من عادات وتقاليد وأعراف، بل عرف القراء تصورات الشخصية العربية وهي تواجه صروف الحياة وأثقالها، وهذا الأمر، أعني معرفة تجربة نجيب محفوظ الأدبية، أفسح المجال أمام روايات عربية كي تنتقل إلى لغات عالمية، وبذلك أصبحت للأدب العربي وفرة في الحضور في أهم لغات العالم المعروفة بانتشارها الأدبي.
والدروس المستفادة من تجربة نجيب محفوظ الأدبية كثيرة ومهمّة، ولعلّ في طالعها الإيمان بالموهبة، والحرص على تنمية الثقافة، ومعرفة الفنون والتواريخ، والأحوال الاجتماعية، والقناعة بأن الإنسان هو أثمن من يعلو سطح الأرض، وأن الروح الإنسانية هي النشيد الذي يحمل معاني القيم السَّامية، ومن بعد الاستمرارية في العمل، والسعي إلى الاشتقاق وافتراع الدروب والتميّز في كل ما تنتجه الذات الأدبية.
نجيب محفوظ الذي قيل عنه أنه أسير الحارة المصرية، وأنه ضيّق المكان من حوله حتى بات مخترماً /معروفاً/ مكرراً، واصل الكتابة عن الحارة المصرية ولكن بروح جيلية جديدة، كل روح تنظر إلى الأرواح التي سبقتها لا لنقدها، وإنما للمضايفة عليها بالجديد والحديث من دون أن تغيّر مجريات الحياة معاني النبل وما تتصف به الروح الإنسانية!.
نجيب محفوظ، وعى مقولة أن العالمية تبدأ من عتبات بيتي، أو من مُدخل حارتي، فعمل طوال مسيرته الأدبية على تقديم الحارة المصرية/ المدينية (الحارة القاهرية) وهي تخلع أثواب القديم وتلبس أثواب الراهن من جهة، وأنار أرواح الأجيال الجديدة وذهنياتهم وهم ينظرون إلى الماضي مرة، ويحلمون بالمستقبل مرة ثانية من جهة أخرى، ولهذا كانت كتابة نجيب محفوظ متجدّدة عبر ثنائية هذا الصراع الفعّال ما بين القديم والحديث، والواقع والأحلام، والداخل والخارج، والحياة والموت، والفقر والغنى، والحب والكراهية.. إلخ، ولكن هذه الثنائية متعدّدة الوجوه والأشكال تظل بلا قيمة إن لم تواكبها كتابة يربخ فيها السحر الحلال وما فيه من شدّ وجاذبية ومتعة ورهافة وأسرار وحميمية وفكر وقّاد!. وهذا ما عُرفت به تجربةُ نجيب محفوظ الأدبية، وما عُرفت به حياته الشخصية التي سوّرتها الأسرار لأنه ما كان يريد الخوض في الحديث عن تفاصيل الحياة وشواغلها وأحلامها معاً.
نجيب محفوظ منجم للأدب، والصنعة الأدبية، ومنجم للكد الإبداعي الذي لا يتجلّى إلا بالتعب الجميل.
Hasanhamid55@ yahoo.com