“سلبية بنّاءة” أم مراجعة مزيفة؟!
أحمد حسن
يفصح النقاش السياسي، العلني وغير المباشر، بين بعض النخب الأمريكية عن محاولات حثيثة لرسم، أو فرض، توجهات محدّدة لسياسة الإدارة “البايدينية” القادمة حيال منطقة الشرق الأوسط، ويمكن لنا اختصار هذه المحاولات المتعددة باثنتين، أولاهما تنادي بـ”السلبية البنّاءة” ويحمل لواءها ديفيد اغناطيوس، الصحفي الأمريكي المعروف، والثانية، يعبّر عنها روبرت فورد السفير الأمريكي السابق في دمشق، وتدعو لإجراء مراجعة، محدّدة ومقيّدة، للسياسات الأمريكية اتجاه المنطقة وخصوصاً اتجاه سورية.
وبالطبع هناك فروق واضحة وجوهريّة بين “السلبية البنّاءة” ودعوات المراجعة، فالصحفي الأمريكي يدعو، بصريح العبارة، رئيسه القادم لفعل “اللاشيء”، أقله في البداية كما يقول باعتبار أنه “أفضل ما يمكن أن تفعله في الحياة أحياناً حيال مشكلة ما”، فيما دعوات المراجعة تطلب من بايدن فعل شيء محدّد وهو التراجع عن سياسات الإدارة السابقة، أو بعض منها على أقل تقدير.
يضيف، صاحب دعوة “السلبية البناءة” -فيما يخصنا كسوريين- وبلسان أمريكي فصيح: دع الأمور كما هي “لا تتسرّع في تعديل عدد القوات، الأعداد المحدودة الآن في سورية معقولة ومفيدة”، و”الحلفاء” على الأرض -العملاء- يقومون بعملنا، وبكلمة أخرى: “استكشف الخيارات، أو كما نصح القدماء لا تتسرع وتأنى”.
دعوة “المراجعة” تذهب أبعد من ذلك فهي تقول بالأمريكي الفصيح أيضاً: السياسات الأمريكية السابقة ثبت فشلها، فالوجود العسكري في شرق سورية “لم يعد في حقيقة الأمر يتعلّق بمحاربة تنظيم “داعش” كما هو معلن”، بل لأهداف أخرى تتعلق بتطويق طهران وإركاع دمشق عبر تشديد حدة الحصار الاقتصادي عليها، لكن هذا، بحسب مطلق الدعوة، لم ينتج أي تغيير مناسب في سياسة الدولتين المستهدفتين لصالح واشنطن، ولم يبق منه إلا صورته الحقيقية “كاعتداء على المدنيين لن يُقدّم ولن يؤخّر في الميزانين السياسي والاستراتيجي”، لذلك سيكون بايدن “بحاجة إلى التفكير العميق في حقيقة الأولويات الأميركية في سورية، والآثار المترتبة على سياسات إدارة ترامب هناك، وحقيقة ما يمكن – وما لا يمكن – للولايات المتحدة إنجازه على أرض الواقع في سورية”.
بالتأكيد هناك فريق أمريكي ثالث، يدعمه بعض العرب و”إسرائيل”، لا يلقي بالاً لدعوات المراجعة ولا يهتم إطلاقاً بالسلبية البناءة، بل يدفع باتجاه تصعيد سياسي وعسكري كبير في الشرق الأوسط تكون نتيجته حلّ “مشكلة” محور المقاومة بالكامل، أي شطبه من الوجود إذا أمكن ذلك، أو، على الأقل، توجيه ضربة قاصمة تمنعه من القيام لعشرات السنوات القادمة.
واقع الحال يقول: إن سياسة الإدارة الأمريكية القادمة ستكون مزيجاً متكاملاً من الدعوتين الأوليتين، فالإدارة ستجد نفسها، بداية، في حاجة للسلبية البنّاءة خاصة أن “تركة ترامب” يمكن استخدامها لاحقاً كسيف تفاوضي لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب حين يحين موعد إجراء “مراجعة كاملة وجردة حساب لنتائج هذه السياسات الحمقاء”.
لكن ما يعنينا هنا التأكيد على أن ما سبق هو نقاش داخلي أمريكي يطمح كل طرف فيه إلى خدمة المصالح الأمريكية العليا كما يراها من موقعه السياسي، والمالي، والشخصي أيضاً، فالثابت الوحيد أن “السلبية البناءة” تعني، في العرف الأمريكي، تركنا نتخبط في مستنقع مأساتنا دون السماح لنا بالخروج منه، فيما المراجعة، لو حصلت، لن تتضمن موقفاً أمريكياً معتدلاً ومقبولاً حيال الأوضاع في المنطقة، خاصة وأن ترسّخ قوائم ثالوث خلافاتنا الداخلية، والبينيّة العربية، وكذا انبطاح أغلب العرب، دولاً ونخباً، للتطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني، لا يشجع واشنطن على ذلك، بل يشجعها على زيادة الضغوط على البقية كي يندرجوا في السياق “الترامبي” الناجع.
إذاً، ولذلك كله، ليس أمامنا، كأبناء للمنطقة، إلا فرض “المراجعة” العتيدة عبر ضغط متغيرات ميدانية نصنعها بأيدينا العارية وتوضح فعلياً، وبالنار، “حقيقة ما يمكن – وما لا يمكن – للولايات المتحدة إنجازه على أرض الواقع في سورية” وفي غيرها… ولا شيء غير ذلك يمكن أن يفيد في وجه “سلبية بنّاءة” أو “مراجعة” مزيفة تضعنا مرة أخرى أمام قصة الشرطي الصالح والشرطي الطالح.. وهما على الحالتين شرطيان يريدان منا الشيء ذاته بكل تأكيد.