باراك أوباما ومصرع المثالية الأمريكية
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة وإعداد: علاء العطار
كتب الصحافي الأمريكي هنري مينكين قبل مائة عام أن الأمريكيين سئموا من “المثالية [الأمريكية] المنحرفة والمربكة والمخادعة والشرسة”، وعلى الرغم من أن مينكين كان يدين بكلامه هذا الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، يمكن أن يصف الرأي نفسه إرث الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. يقوم أوباما الآن بجولة للترويج لكتابه، ويدعو فيها إلى تعيين حكومة نزيهة، وإلى نشر الفضائل الاجتماعية وما شابه ذلك. لكن أوباما شوه صورة المثالية الأمريكية أكثر من أي رئيس أمريكي آخر منذ ويلسون.
كان الأمريكيون قبل اثني عشر عاماً مفتونين بالرئيس المنتخب حديثاً من ولاية إلينوي، وبعد الخداع والديماغوجية التي اتسم بها عهد جورج دبليو بوش، أثرت حملة أوباما الرئاسية الأولى بشعارها “نعم نستطيع” في الأمريكيين حتى يتمكن شخصياً من استعادة “الهيبة الأخلاقية” للحكومة، وتجسدت مثالية أوباما في ملصق حملة “الأمل” الشهير الذي كان يؤلِّهه عملياً.
وقال أوباما قبيل تنصيبه للمرة الأولى: “المطلوب هو المثابرة نفسها والمثالية نفسها التي أظهرها مؤسسو دولتنا”. وبعد خطاب تنصيبه، ابتهجت وسائل الإعلام وكأن عصراً جديداً من المثالية السياسية قد بزغ.
عملياً، انضم معظم العالم إلى سباق تقديس الرئيس الأمريكي الجديد، فبعد أقل من اثني عشر يوماً من توليه منصبه، رشح أوباما لجائزة نوبل للسلام – والتي حصل عليها لاحقاً في العام نفسه. وقال رئيس الوزراء الهندي آنذاك، مانموهان سينغ، في مأدبة عشاء رسمية بالبيت الأبيض: “إننا نحيي بحرارة تقدير لجنة نوبل لِلَمْسَتك الشافية وقوة مثاليتك ورؤيتك”. وبعيد حصوله على جائزة السلام، أعلن أوباما أنه سيضاعف عدد القوات الأمريكية في أفغانستان ثلاث أمثال، فساعدت جائزة السلام في وقايته من النقد عندما شرع في قصف سبع دول خلال رئاسته.
سرعان ما أصبحت مثالية أوباما كفناً للفظائع الفيدرالية، ففي 23 نيسان من عام 2009، دعا أوباما إلى “محاربة الصمت الذي يعد أعظم متواطئ مع قوى الشر”، والمثير للسخرية أنه، في اليوم نفسه، قرر معارضة إنشاء لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق بجرائم إدارة بوش وفضحها. وبعد أن زار مقر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأثنى على جمهوره لمساعدته في “دعم قيمنا ومثلنا”، اختار أوباما عدم مقاضاة أي من مسؤولي الوكالة الذين أنشأوا نظام تعذيب سري في جميع أنحاء العالم، لأن “من المهم أن نتطلع إلى المستقبل وليس إلى الماضي”. وعلى مدى السنوات الخمس التالية، حارب مسؤولو إدارة أوباما بقوة تحقيق مجلس الشيوخ في انتهاكات بوش المتمثلة بالتعذيب، ودافع أوباما شخصياً عن وكالة المخابرات المركزية بعد أن كُشف تجسسها الغير القانوني على مجلس الشيوخ لإفشال التحقيق، كما نسفت إدارة أوباما كل دعوى قضائية قدمها ضحية من ضحايا التعذيب في محكمة أمريكية.
وفي عام 2011، كسا أوباما قراره بقصف ليبيا بغطاء التذرع بـ “القيم الديمقراطية” و”المثل العليا” التي أكد أنها “المقياس الحقيقي للقيادة الأمريكية”. لكن الجماعات الإرهابية التي كانت تقاتل الرئيس الليبي معمر القذافي كانت تقتل المدنيين بالفعل، وكان أوباما مقتنعاً كل القناعة بصواب استهداف القذافي حتى إن من عينهم أشاروا إلى أن القانون الفيدرالي لا يمكنه أن يقيد مهمة “الإنقاذ” التي أطلقها. وفي الفوضى التي اجتاحت ليبيا فيما بعد، قُتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة أمريكيين آخرين خلال هجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي. وعندما عادت جثثهم إلى الولايات المتحدة، أشاد أوباما بهؤلاء القتلى لتجسيدهم “الشجاعة والأمل، ونعم، المثالية، تلك الفكرة التي هي أساساً فكرة أمريكية قائمة على أن نغادر العالم بعد جعله أفضل قليلاً”، لكن خطاب أوباما المسكن فشل في ردع انتشار أسواق العبيد حيث يُباع المهاجرون السود علناً في المناطق الليبية التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة.
وقال أوباما في خطاب تنصيبه الأول: “لا تزال المثل الأمريكية العليا تنير العالم، ولن نتخلى عنها من أجل المنفعة”. لكن أحد أكثر الموروثات إثارة للصدمة التي خلفها أوباما كانت ادعاء أن له الحق في قتل المواطنين الأمريكيين الذين يُصنفون أنهم إرهابيون مشتبه بهم دون محاكمة ودون سابق إنذار ودون أن يمنح الأفراد الذين صنفوا أي فرصة للاعتراض قانونياً، بل إن محامي أوباما رفضوا الكشف عن المعايير المستخدمة في تصنيف الأمريكيين على قائمة القتل. وزادت ضربات الطائرات المسيرة عشرة أضعاف في عهد أوباما، واختار شخصياً من سيُقتل في اجتماعات البيت الأبيض الأسبوعية المسماة “ثلاثاء الرعب” التي تضمنت عروضاً تصويرية للأهداف المحتملة.
أدت أكاذيب أوباما وإساءة استخدامه للسلطة عاماً تلو عام إلى تآكل المثالية التي ساعدته في تولي منصب الرئاسة، فقد وعد عندما كان مرشحاً رئاسياً: “لا مزيد من التنصت غير القانوني على المكالمات الهاتفية”، وحين أصبح رئيساً، وسع عمليات وكالة الأمن القومي الغير القانونية في استباحة خصوصية رسائل البريد الإلكتروني والسجلات الأخرى الخاصة بالأمريكيين. ووعد بالشفافية لكنه ألغى قانون حرية المعلومات وحاكم ضعف عدد الأمريكيين عند انتهاكه قانون التجسس مقارنة بجميع الرؤساء مجتمعين منذ وودرو ويلسون. وشجب “التطرف” باستمرار، مع أن إدارته دخلت في الوقت نفسه في شراكة مع السعودية لإرسال أسلحة إلى الجماعات الإرهابية التي كانت تقتل المدنيين السوريين في محاولة فاشلة للإطاحة بالحكومة السورية الشرعية. وساعد أوباما في تأسيس ديمقراطية الحصانة حيث لا يدفع الحكام ثمن جرائمهم، إذ لاحظت صحيفة نيويورك تايمز بعد انتخابات عام 2016 أن إدارة أوباما دافعت في المحكمة بقوة للحفاظ على شرعية ممارسات إدارة بوش الإجرامية مثل تعذيب واحتجاز الأمريكيين الذين اعتقلوا في البلاد باعتبارهم “مقاتلين أعداء”.
وأعلن أوباما في خطابه أمام المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في آب الماضي: “أتفهم لم يكره العديد من الأمريكيين حكومتهم”، لكن أوباما لم يعترف قط بدوره الشخصي في إثارة غضب ملايين الأمريكيين الذين صدقوا أكاذيبه في محاربة الفساد في عام 2008، وبدل استعادة الثقة في الحكومة، أكدت رئاسة أوباما ببساطة شكوك ملايين الأمريكيين بشأن السلطة الرسمية.
وفي السنوات الأخيرة من رئاسته، كان أوباما في معظم الأوقات يدين العبارات الساخرة منه أكثر من المناداة بالمثالية، وبحلول نهاية رئاسته، كانت المثالية أشبه بقتيل مرمي على قارعة الطريق السياسي. وكان تعهد دونالد ترامب في عام 2016 بـ “تجفيف مستنقع الفساد” هو الوعد السياسي الأكثر دلالة على قذارة وفساد إدارة أوباما – على الأقل وفقاً لمعايير حكومة واشنطن.
باتت المثالية الأمريكية الملاذ الأخير للأوغاد منذ عهد ويلسون، إذ استخدم الرؤساء جون كينيدي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون المناشدات المثالية لتبرير حرب فيتنام، واستخدمها بيل كلينتون لتسويغ قصف صربيا، وجورج دبليو بوش لتسويغ الدمار الذي لحق بالعراق. ووسائل الإعلام الأمريكية السائدة مستعدة دائماً لمساعدة الرؤساء في تغطية المذابح التي ارتكبوها في الخارج بالهراء الرنّان. قال ديفيد إغناتيوس، وهو صحافي في صحيفة واشنطن بوست، في أواخر عام 2003: إن حرب بوش على العراق “قد تكون الحرب الأكثر استغلالاً للمثالية في العصر الحديث”.
تشجع المثالية الأمريكية المواطنين الأمريكيين على النظر إلى السياسة على أنها نشاط ديني، وتحول السياسيين من سماسرة إلى مخلِّصين. ليست المشكلة ما فعلته الحكومة الأمريكية في الماضي، بل هي كيف يجب عليها تحسين أفعالنا في سبيل ما هو أفضل في المستقبل.
أعلن وودرو ويلسون أن “المثالية ستنقذ العالم” بعيد أن دمرت الحرب العالمية الأولى معظم أوروبا ومهدت الطريق لاستيلاء النازيين على السلطة. وفي يومنا هذا، غالباً ما تكون المثالية الأمريكية هي التفكير الداعم لمزيد من الاستعباد، وكان أوباما آخر رئيس يعتمد على خطاب “ادعاء البراءة” لطمس الواقع السياسي. بالتالي، لا يستطيع الأمريكيون تبجيل مزيد من المثاليين التواقين للاستيلاء على سلطة جديدة أو بدء حروب جديدة.