مجلة البعث الأسبوعية

متحف مغلق ومدينة بلا نقد إبراهيم داود: حاولت أن ألوّن الحياة في زمن الموت والبحث عن الخلود هاجس الفنان الحقيقي

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

الفن التشكيلي بحلب متأصل بحداثته الدائمة على مر العصور، وله جمالياته المحلية والفنية والإنسانية، وتأثيراته الروحية التي تجعلك تصغي لنغمات الناي، وإيقاعات المولوية، ورقصات الغيوم والجراح والأرواح بين الأشجار والجدران والكلمات والماضي والحاضر والمستقبل، بينما تخطفك من أعماقك حركات الورود وعطورها المسحورة بالألوان وتدرجاتها وإشعاعاتها وظلالها التي تتحول مع كل لمسة ريشة إلى نص حياتي يفوح بالأحداث والحكايات والسير الذاتية للإنسان والمكان والزمان. لكن، أين الفن اليوم من تاريخ هذه المدينة العريقة؟ هل يواكب جذورها وطموحاتها وآلامها وأحلامها وراهنها ومستقبلها؟ وكيف لإبن حلب أن يكون أقرب إلى جماليات مدينته ثقافياً وفنياً في ظل الحياة اليومية الضاغطة؟

هنا، في حلب الشهباء، ولد الكثير من الفنانين والفنانات، ومنهم المبدع إبراهيم داود الذي عكس بفنه مرايا التراث الشعبي، والحياة اليومية، وتحولات الذات الإنسانية بين الحب والحزن والحلم والارتجال والتفاؤل والانكسار والتشطي والارتحال، تماماً، كما عكس تداخلات المدارس والمذاهب الفنية لتبتكر بصمتها اللونية كروح أخرى.

ويبدو الغموض والوضوح في آنٍ معاً أهم ميزة جمالية في أعمال داود الذي يترك للألوان حريتها الحركية مع مكوناتها وعواملها وعناصرها وشخوصها، لتتناغم المعاني المتدرجة مع الرموز المشعة وظلالها وأبعادها وكلامها وموسيقاها الطبيعية والداخلية، ما يجعل العمل لحظة كلية تحكي سيرتها وسيرة فنانها وبيئته وعوالمها وذاكرتها وأحلامها، ثم تجذبك الملامح إلى مجملها المكونة من تفاصيل عليك إكمالها كمتلقّ لتكتشف التداخلات بين المذاهب والمدارس، لكن بروح إبراهيم داود الذي لا بد وأن يترك بصمته على أعماله كثيمة جمالية منبثقة من الثيمات الموضوعية.

ترى، ما الذي يجعل داود يغور أكثر في عالمه الفني؟ وكيف شابكَ الكتلة الدلالية والفراغ اللوني في النقطة اللامرئية التي تظهر كما اللانهاية في نصوصه اللونية وإيحاءاتها وتصريحاتها وتفاعلاتها المختلفة؟ حول أكثر من هذه الاحتمالات، انطلق حوارنا من منصة هذا السؤال:

طفولة فنية وإخلاص إنساني

 

ما الذي أضافه إليك الفن والكتابة النقدية؟ وما الدلالات التي لم تصل من تجربتك التشكيلية؟

طفولة المبدع هي أهم المحطات التي يتوق للعودة إليها لأنها تشكل مصدراً مهماً لإلهامه، فهي – إضافة إلى ما تثيره من حنين ولوعة كمحفزات للإبداع – تعتبر بداية اكتشاف الحياة، وأولى الخطوات في عالم مليء بالأسرار والألوان والأشياء الجديدة المثيرة، لأن الطفولة ليست مرحلة زمنية، بل روح ممتدة ومستمرة، وإن غابت فلا بد من استعادتها مرة أخرى، لأنها نظرة إلى العالم، واكتشاف دائم، وأسلوب للحياة، وطريقة في التمييز. وما زلت أتعلم من الطفولة، وتعلمت من الحياة أن أستمر بين الفن والعمل، لأنني، وخلال فترة الدراسة الجامعية، درست في إعداديات دمشق وريفها، ثم عملت في دار “البعث” رسام “موتيف” مع القصة والشعر والإخراج الصحفي، إضافة للإخراج والإشراف الفني في جريدة “الأسبوع الأدبي”، ودار الفاضل، وأصبحت مستشاراً لكثير من دور النشر بدمشق بعدما تدربت على يد خبراء ألمان وفرنسيين.

أقمت معرضي الأول بالمزة في دمشق، عام 1981، وبدأت مشواري في المراكز الثقافية الأجنبية، كالروسي والألماني والبريطاني والفرنسي والإسباني؛ وساهمت مواكبتي للمعارض في تعزيز ثقافتي الفنية، وبدأت تصميم الملصقات وأغلفة الكتب لغاية 1991، حيث عدت إلى حلب وإلى العمل الصحفي في جريدة “الجماهير”، رئيساً للقسم الفني ومحرراً لصفحة الفنون التشكيلية. في تلك الفترة، رسمت ما تجاوز الـ 600 لوحة مائية وزيتية، لم تعرض، على أمل إقامة معرض خاص بها، لكن الإرهابيين مزقوها وأتلفوها في بداية الحرب؛ وما لم يصل للآخر هو التخيل والإبداع الفني في محيط لا يدرك معنى الفن والوعي الحسي والجمالي.

لقد رسخت التجربة الفنية التي عشتها منذ الطفولة في أعماقي الدافع للعمل والإخلاص تجاه الإنسانية المفرطة، لأن الفن يعبر عما يموج داخل القلوب، ويترجم تلك الأحاسيس إلى مناظر مشهودة، وهذا الدافع جعلني أضيف إلى الرسم. وكوني أعمل في مجال الكتابة النقدية، لشعوري بأن الفن التشكيلي لم يأخذ حقه الإعلامي في بلدي آنذاك، قمت بنشر الثقافة الفنية من خلال صفحتي فنون تشكيلية وتعريف بالفنانين في حلب وإدارة المعارض الفنية لتقديم رسالة في تلاحم الفنان والمتلقي قدر المستطاع.

 

أنهيت دراستك في “مركز فتحي محمد للفنون الجميلة”، ثم تابعتها وتخرجت من كلية الفنون الجميلة بدمشق 1983.. ما الفروقات الفنية بين الزمنين؟

انتقالي من مرحلة مركز الفنون إلى كلية الفنون الجميلة كمن يحول الرسم من كرّاس إلى لوحة كبيرة من القماش، أمّا تجربة الفنانين الكبار الذين عشت معهم، كتلميذ أو صديق، ومنهم فاتح المدرس، المبدع، فأراهُ صاحب عفوية وبساطة ومعالجة لونية وترميز، بينما اعتمد وحيد مغاربة الأستاذ والصديق – رحمه الله – على التراث المحلي وتفوق عالمياً، أمّا إسماعيل حسني الذي عرفته في مركز الفنون، فكان شحيحاً في أعماله، مبدعاً لزمانه، والمرحوم طاهر البني الذي صادقته لخمسين عاماً، مبدع بالرسوم المائية وطبيعة بلادي، وهو صاحب الألوان الشفافة، وفي أعماله الكبيرة والزيتية اقترب من التراث كصديقه وحيد مغاربة، إلاّ أن نذير نبعه أستاذي في الجامعة مع خزيمة علواني، فله أسلوبه الخاص المعتمد على الدقة والشخوص الحالمة والتراث، بينما خزيمة يركز على التعبيرية والتحوير، كما أن الأستاذ نصير شورى يتميز بتكوينات الطبيعة والتقنيات اللونية الحديثة، بينما أبدع وسعيد طه في فن الغرافيك والحروفية. وأرى عبد الرحمن مهنا، الصديق الصادق الذي عشت معه أكثر من عشرين سنة، يقترب في بدايته من السوريالية والتعبيرية، وفي آخر أعماله اقترب من شخوص فاتح المدرس. أمّا عن تجربتي معهم، فمنهم من كان أستاذي، ومنهم من كان صديقي، فلابد من التأثر بهم، ولكني مزجت تلك التجارب مع تجربتي، واستخلصت أسلوبي الخاص.

 

تعتمد في أعمالك على إيقاعات داخلية متنوعة.. متى تكون صوائت الصمت أحد الشخوص الفنية؟ وأي من أعمالك يمثل هذا المفهوم؟

الحالة النفسية والعوامل المحيطة تؤثر بشكل قوي في اللوحات التعبيرية التي تتخللها مجموعة من الرموز، ونجدها في أعمال السنوات الأخيرة، وخصوصاً في المعرض الذي أقيم في دبي “لا للموت في زمن الحرب”. ومع تطور أسلوبي الفني، بدأت الذكريات تدخل بشكل رموز في أعمالي، وجعلت التحديات شخصيات أعمالي تتغلب عليّ، لأنها عكست معاناة الناس، وصارت ابتسامتها السابقة ابتسامة حزينة كئيبة، لاسيما في مرحلة الأزمة التي مرت بها حلب، فأصابني النزوح، وفتك الإرهاب بأعمالي، وكذلك بأهلي وجيراني، ورأينا هلاك الأبرياء ودمار البيوت واقتلاع الشجر، وهذا ما ظهر في أعمالي، خصوصاً في تلك اللوحة التي أسموها “جوكندا حلب”، وما عكسه وجه المرأة الحزين الذي رسمته، وما عبّرتْ عنه ابتسامتها الجافة التي تختزل، أيضاً، ما تشكّلتْ منه خلفية اللوحة من رموز المدينة وحالات الضغط في الظروف السيئة والقهر والجوع، لأن الوطن كالروح في الجسد لا ينفصلان، لذلك يعطي الفن لنفسه إباحية العمل ومأساوية الوطن من خلال تعلقه به وغيرته عليه.

 

هل هناك حداثة في المشهد التشكيلي الحلبي؟ ما أهم جماليات الحداثة برأيك؟

الحداثة في الفن التشكيلي بحلب موجودة، لكنها بلا هوية خاصة، لأكثر من سبب: إنها تتخبط في مدارس عديدة، ولأن هناك طفيليين على الفن، يضعون الألوان دون دراية، ويطلقون عليها بجهل صفة “الحداثة”.. لا بد من إنشاء مدرسة أو مدارس متعددة لها هوية محلية، فكرها وثقافتها إنسانية، ولها سمة متقدمة، وحالة متميزة ضمن الإرث الحضاري الحديث.

 

لماذا الإنسانة المؤنثة نادرة الوجود كفنانة تشكيلية في حلب، بينما هي حاضرة بكثرة في الأعمال الفنية كشخصيات بين الحب والعري والكآبة والسطحية والرمز؟

سابقاً، كانت مشاركات المرأة الفنانة نادرة، ولم تطور نفسها بسبب الظروف والبيئة التي تعيش فيها، ومنها تحجيم الدور الثقافي للمرأة، بينما، اليوم، نجدها تسابق الرجل الفنان في المعارض، وهذا دليل على نشر الوعي؛ أما عن حضورها في الأعمال الفنية، فلأنها ملهمة الفنان، ورمز للجمال والأمومة والخصوبة والعطاء، وتعتبر محوراً تعبيرياً جمالياً.

 

الأماكن الأثرية بصمة مدينة.. بماذا يختلف تجوالك السابق في حلب عن تجوالك هذه اللحظة؟ وكيف تستعيد الذاكرة الأثرية حضورها وبناءها بعد كل هذا التدمير الإرهابي؟

للأماكن الأثرية أهمية كبيرة في ذاكرتي، وأنا أعشق تلك الآثار، فمنذ الطفولة أحمل كرّاسي وأتجول، أشم رائحتها القديمة المتجددة، وألامس عظمتها، لأرسم بشكل مباشر، وأقترب من ناسها؛ ولأنها موروث حضاري عميق بقلعتها وأسوارها وأبوابها وأسواقها، فإن لوحاتي الحالية جاءت لتعكس المآسي التي مرت بها من تدمير إرهابي وظلامي، وبالتالي، اختلفت ثقافتي الفنية والتعبيرية عما رسمته سابقاً لأصل إلى ذلك الموروث الحضاري المبدع.. إن الذكريات كنز للفنان، لأنه يستمد قوته من تلك الذاكرة، ويحولها إلى عطاء مثمر مفيد، لذلك هاجس الفنان أن يبحث عن الخلود، وأن يظل في ذكريات المستقبل.. والفنان الحقيقي لا يكف عن التطور، وهو ينتقل من مرحلة لأخرى تتغير فيها ألوانه أو ضربات فرشاته، وقد يميل إلى مساحات وتكوينات جديدة.. ينوع بالفراغات، وقد يلجا إلى تجارب مختلفة، ومواد جديدة؛ لذلك، أحاول الرسم يومياً، وأحياناً، أفرغ مخزوني الداخلي عن طريق الدراسات الخطية، أو قراءة أخبار الفن والدراسات الفنية، والكتابة النقدية التشكيلية، أو أترك لمخيلتي أن ترسم في الحلم لأترجمها في اليقظة.

 

ماذا يعني لك المتحف بمعناه العميق؟ والمشاركة خارج سورية؟

أستمد من المتاحف الصفاء وراحة النفس والنظر والهدوء والطمأنينة، إلا أن متحف حلب للفن الحديث لم أره منذ الصغر، لأنه دائماً مغلق للأسف. ومن خلال مشاركاتي خارج البلد، وزياراتي إلى المتاحف العالمية الخاصة بالفنانين والمتاحف العامة، مثل متحف البرادو في مدريد، واللوفر في باريس، كنت أشعر بعظمة الفنان المبدع.. المتحف يدلل على ثقافة فنية حضارية متطورة عبر العصور، ونحن نرى الفارق الكبير بين الفن في حلب حالياً وسابقاً، خصوصاً، بعد سفر كثير من الفنانين، وأنوّه: ليس كل الفن الأوروبي أفضل، بل الثقافة الفنية متطورة.

 

لماذا لا يوجد في حلب متحف افتراضي؟ ومزاد فني واقعي وافتراضي؟ وما دور الفنانين والجهات المسؤولة في هذا المجال؟

يجب أولاً فتح المتحف الواقعي الموجود للفن الحديث، وثانياً لم يصل التطور الرقمي إلى مستواه من حيث التقنية وإيصال المعلومة للجميع، أما المزاد الفني – سواء أكان “واقعياً” أم افتراضياً” – فإننا لم نستطع إيصال الثقافة الفنية والمرجوة للمواطن المحلي، فكيف سنصل إلى مرحلة ثقافة اقتناء اللوحة؟

كانت لي تجربة في معرض اللوحة الصغيرة.. لقد بيع أكثر من 300 لوحة بسعر منخفض، إلا أن المسؤولين لا يساهمون في نشر الثقافة الفنية حالياً، بينما لو عدنا، مثلاً، إلى عام 1959، لرأينا كيف بيعت أعمال معرض الربيع بالكامل لمؤسسات الدولة.

 

هل هناك نقد فني في حلب.. لا سيما وأنك كتبته منذ 1988؟ وهل للإعلام دور في مجال الثقافة الفنية؟

في السابق، كان هناك نبيه قطايا وكمال سلطان – رحمهما الله – وحالياً، لا يوجد نقد في حلب، لأسباب عديدة، منها أن النقد يعتمد على فهم وتشريح اللوحة التي تتكون من الشكل والمضمون، وهناك وصف للوحة وعوامل وعناصر ومكونات ودلالات للنص اللوني وما يخفيه هذا النص، ولأن الفنان عندنا لا يتقبل، أو لم يصل إلى، ثقافة النقد، فتعرضت لمشاكل كثيرة في النقد لا داعي لذكرها هنا.. إن شرح العمل الفني ووصفه يعطي المتلقي ثقافة فهْم اللوحة، والإعلام له دور كبير، لا سيما إن وجِد هناك متخصصٌ بالفن يقدم توضيحاً عن اللوحة من حيث المدرسة والشكل والمضمون للمتلقي.

 

ماذا تعني لك الجوائز خصوصاً وأن أولها كان من حلب وكنت في الخامسة عشرة؟

هناك العديد من الجوائز، ولكن الأهم يكمن في أهمية هذه الجوائز للفنان، ومساهمتها في تقدمه الإبداعي الفني، ولن أنسى أن أول جائزة نلتها في المدرسة هي التي دفعتني للمثابرة الفنية.

 

اللوحة دواء في زمن الموت

واختتم المبدع إبراهيم داود: حاولت أن ألوّن الحياة في زمن الموت، وقدمت علاجاً بمفاهيمي مقتنعاً بأن العلوم الإنسانية كفيلة بحل مشكلة الإنسان ومأساته، ومنها الفن الصادق كأحد هذه العلوم البصرية، ما يجعل اللوحة تدخل كل بيت، تماماً، كلوحة “ماسح الأحذية” للفنان لؤي كيالي.