مع اقتراب العام الجديد.. توقعات فلكية منتظرة وأحلام في خانة الأمل
باتت حالة روتينية مع كل نهاية عام تلك الإطلالات المكرّرة لمنجمين يغزون الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، يشبه حديثهم إلى حدّ بعيد تلك الحوارات والنقاشات التي نستعرضها أحياناً على شاشات وفضائيات الأخبار، وتصبّ في إطار التحليل والتنظير السياسي، لكن الفارق أن التحليل يأخذ صيغة التنبؤ والتنجيم والجزم بما هو آتٍ، ويبدو في كثير من الأحيان تحليلاً سيئاً ورديئاً، لا بل ومثيراً للضحك بطريقة عرضه واستعراضه من قبل المنجمين، ومدّعي المعرفة بالغيب، وخاصة حين يشعر أولئك بالحرج في تقديم الإجابة عن تفصيلات معينة تفسّر توقعاتهم، أو تطالبهم بدقة أكثر في تحديد المقصود منها.
وأياً كانت نسبة القناعة والتبني لآراء أولئك المنجمين، والميل إلى تصديق أحدهم، أو متابعة توقعاته وقراءته للأبراج والطالع، فالثابت أن إطلالاتهم تلك باتت حدثاً منتظراً عند فئات واسعة من السوريين مع بداية كل عام جديد، وطقساً روتينياً تقدّمه فضائيات كثيرة في سهرة رأس السنة، فتضخم أثر هؤلاء المنجمين الذين تستخدمهم لزيادة نسبة مشاهديها، ويستخدمونها بالمقابل لصناعة أسماء فلكية رنانة لكل منها طقوسه وطرائقه التي لا تستند إلى العلم والمعرفة بقدر ما تعتمد على البهرجة والاستعراض والفراسة في تقديم التوقعات وقراءة الأحداث والشخصيات.
حصة الأسد
ويبدو أثر تلك التوقعات التي ترافقنا مع إطلالة كل عام ملحوظاً وملموساً عند الكثير من الأشخاص الذي يتابعون بقصد أو بغير قصد أولئك المنجمين الذين يغزون الفضائيات، فمثلاً يبدي وسيم وهو شاب يبلغ من العمر 27 عاماً قلقه وتوجسه من ذلك التوقع الذي شاهده مؤخراً على إحدى الفضائيات لأحد المنجمين الذين استعرضوا الأبراج الفلكية للعام الحالي وحظوظ كل منها، حيث أوضح لنا أن البرج الفلكي الذي ينتمي إليه وفقاً لمواليده وهو برج الأسد لا تتجاوز نسبة حظ التي قُدّرت له هذا العام الـ 1% من كعكة الأبراج، والتي أخذ فيها بالمقابل برج الحوت حصة الأسد فكان له ما يقارب الـ 18% ونسب متفاوتة أخرى حظيت بها باقي الأبراج، ورغم أن الشاب لا يؤمن بتلك الأبراج والتوقعات ولا يتابعها إلا للتسلية والتندر، إلا أنه رغم ذلك بدا شديد الاستياء من ذلك التوقع. في المقابل تحذّر رنا وهي ربة منزل جارتها من أحداث سيئة قد ترافق برجها مع بداية العام بحسب التوقعات التي شاهدتها، لكنها تعود لتبشّرها بانفراجات قادمة بعد انقضاء تلك الفترة، ورغم أن معظم من تتحدث إليهم يبدون عدم اقتناع أو اهتمام بموضوع أثر تلك التوقعات وما يحمله إليهم الطالع أو الحظ المرتبط بأبراجهم، إلا أن متابعتهم واهتمامهم بما يخفيه طالعهم وخصوصاً مع بداية العام يبدو بعكس ذلك، وهو ما تؤكده آراؤهم!.
مراكز ضبط
يربط الدكتور مهند إبراهيم اختصاصي علم النفس والمدرّس في كلية التربية بجامعة البعث موضوع الإيمان بالغيبيات وتأثيرها على أسلوب الحياة عند الكثيرين من أفراد المجتمع بمسألة الجهل والمستوى الثقافي المتدني ونقص القاعدة العلمية، مقابل اعتماد أسلوب الإيحاء للآخرين من قبل المنجم أو المبصر أو قارئ الغيب، ويضيف: يقسم الناس عموماً في هذا الموضوع إلى فئتين: فئة أولى تضمّ الأشخاص الذين لديهم مركز ضبط داخلي يعتمدون من خلاله على أنفسهم، وكلّ شيء يحدث في يومياتهم يعتقدون أنه ناتج عن سلوكهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم، وهؤلاء أشخاص واقعيون من الصعب أن تؤثر علوم الغيبيات المختلفة على قناعتهم أو تبدلها، أما الفئة الثانية فهم الأشخاص الذين يكون مركز الضبط لديهم خارجياً، أي لديهم تعويل على العوامل الخارجية والغيبيات، وهؤلاء يكون من السهل التأثير عليهم نفسياً، وغالباً ما يكونون قد تعرضوا للكثير من خيبات الأمل أو الإحباط أو الصدمات النفسية في واقعهم، وهذا ما يمكن تفسيره أيضاً بزيادة الإقبال على هذه العلوم في ظروف الأزمات، ويمكن القول أيضاً إنه من المهم جداً التمييز وعدم الخلط بين العلوم المعروفة كعلم الفلك القائم على أشياء واقعية وعلوم التنجيم التي تعتمد الغيبيات وأساليب الخدع النفسية والإيحاءات المختلفة التي يتقنها المبصرون.
ضعف السيطرة
تفسير آخر يقدّمه الخبير الاجتماعي والباحث في علم النفس كنان الشيخ، فيرى أن تعلق الإنسان بالغيبيات يعود لعدة أسباب، منها اعتقاده أنه غير قادر على السيطرة على تفاصيل حياته، وبالتالي فالحياة تخضع لقوة غيبية فيحرّر نفسه من السيطرة وينسبها إلى هذه القوى، وبالتالي يحرّر نفسه من مسؤوليته في عالم الواقع، أو قد يواجه الإنسان ظروفاً صعبة لا يمكنه السيطرة عليها مع أنه يرغب في حلها وتفسيرها، فيلجأ إلى هذه القوى الغيبية لعلّه يجد التفسير. ويضيف الشيخ: يری علم النفس أنه بالإمكان قطعاً العيش من دون أفكار عالم الغيب، وذلك بعد استبدالها بالمنطق والنضوج وقدرة احتمال الواقع، لكنه في المقابل يری أن البشر لن يتخلوا قريباً وربما أبداً عن عالم الغيبيات، خصوصاً لأهميته وللمساعدة التي يقدمها في تلك البقاع من الأرض التي يسود فيها الظلم والحرب والموت، وأي محاولة لإدخال المنطق سوف تقابل بالرفض والاستنكار، لهذا السبب يتوجّب النظر لحاجة الإنسان للغيبيات بعين الاحترام والتواضع، لكن من الضروري إلقاء الضوء علی الحالات التي يستعمل فيها بعض البشر هذه الأفكار للتسبب بالأذى والتحرّر من المسؤولية أو لاكتساب السيطرة.
فراسة وليست تنجيماً
ويؤكد الشيخ أن الكثير من المنجمين هم في الحقيقة متمرسون في علم الفراسة أكثر من مهارتهم في معرفة الغيب أو التنبؤ به، وعلم الفراسة يعدّ من العلوم الطبيعية التي تمكننا من معرفة بواطن الناس من خلال النظر إلى أحوالهم الظاهرة من طريقة الألوان والأشكال والحركات والتأمل في الأعضاء، والفراسة مصطلح شامل ولا يختص بعلم معيّن، فهناك فراسة الأثر أو ما يُسمّى بـالعيافة وهي تتبع آثار الأقدام على التراب، وفراسة الريافة التي تتمّ من خلالها معرفة مصادر المياه وأماكن الحيوانات والنبات، أما الأنواع التي تختص بالبشر فهي متعددة ومتداخلة أيضاً ولها أشكال كثيرة، تأتي في طليعتها فراسة القيافة التي تؤدي إلى معرفة الناس بمجرد النظر إلى بشرتهم وملامحهم وبنية أجسادهم. حالياً ظهرت الكثير من الدراسات والبحوث في علم الفراسة الخاص بالبشر وتحليل شخصياتهم كفراسة الوجوه أو ما يُسمّى “بـالفيزيونومي”، وفراسة الإيماءات والحركات التي تتفرع منها فراسة الإحساس بالنبرات والهيئات، وفراسة خط اليد أو الكتابة البدوية إضافة إلى فراسة الألوان.
ويختم الشيخ: لا بدّ من التفريق بين علم الفراسة الذي له تفسيرات في علم النفس ومرتبط بعلم الإنسان والوراثة، وبين الحاسة السادسة التي لا تفسيرات أو ارتباطات منطقية لها، ولا بد أيضاً من تغليب لغة المنطق والعقل ونشر ثقافة التفكير والبحث في مجتمعنا بدل ثقافة الغيب والتنجيم، فكما يقال دائماً “كذب المنجمون ولو صدقوا”!.
محمد محمود