دراسات

في الذكرى الخامسة لاتفاق باريس للمناخ.. تأجيل وبطء في تنفيذ الالتزامات

د. معن منيف سليمان

مضت خمس سنوات على اتفاق باريس للمناخ ولا زالت هناك فجوة حتى الآن بين التعهدات المعلنة طبقاً لاتفاق باريس وبين الواقع. فالأوروبيون اتفقوا على خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بحلول 2030، بنسبة “لا تقل عن 55 بالمئة” عمّا كانت عليه في عام 1990، في حين كان هدفها السابق 40 بالمئة. وقد نكثت دول عدّة بوعودها قبل سنوات وانسحبت أخرى من الاتفاق. وينتقد البعض فيما يتعلق بتنفيذ شروط الاتفاق سياسات الدول المسؤولة أكثر من غيرها عن انبعاث الغازات الدفيئة، وتأجيل الالتزامات وجعل تنفيذها على مدى أطول مما حدّد سابقاً.

في الثاني عشر من شهر كانون الأول 2020  مرّت ذكرى خمسة أعوام على توقيع اتفاق باريس للمناخ، وذلك خلال مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين للاتفاقية الإطارية لتغيُّر المناخ. ولقد كان ذلك ولا يزال علامة بارزة في مسيرة المجتمع الدولي نحو التصدّي لأكبر التحديات التي تواجه المجتمع البشري في العصر الحديث، وهي مخاطر تغيُّر المناخ العالمي والارتفاع المستمر لدرجة حرارة كوكب الأرض. هذه المسيرة الطويلة بدأت في نهايات الثمانينيات من القرن الماضي، وتُوِّجت بتوقيع الاتفاقية الإطارية لتغيُّر المناخ في أثناء قمة الأرض التي عُقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992. وقد دعت تلك الاتفاقية المجتمع الدولي إلى الحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عند مستويات لا تهدد استدامة التنمية على كوكب الأرض.

ولقد دخلت دول العالم في عملية تفاوضية شاقة، انتهت بتوقيع بروتوكول كيوتو في اليابان، الذي ألزم مجموعة الدول الصناعية المتقدمة بخفض انبعاثاتها من الغازات الضارة بنسب محددة وفي إطار زمني محدد. ولم يحقق بروتوكول كيوتو معظم غاياته، وكان من أكبر معارضيه الولايات المتحدة الأمريكية، التي انسحبت منه في عهد الرئيس جورج بوش الابن، بذريعة أن قضية تغيُّر المناخ هي قضية عالمية ويجب على جميع من يعيش على هذا الكوكب أن يسهم في التصدي لها. وهكذا بدأت وفود أكثر من 195 دولة ماراثون تفاوضي جديد كانت محطته النهائية في باريس عام 2015، حيث نجح المفاوضون في صياغة اتفاق جديد يُشرك جميع مَن ينضم إليه من دول العالم في التصدّي لمخاطر تغيُّر المناخ، سواء من ناحية الحدّ من الانبعاثات المسببة له، أو التكيُّف مع أخطاره المحتملة حال حدوثها.

كان الهدف الرئيس لهذا الاتفاق هو السعي للحيلولة دون أن تزيد درجة حرارة الكوكب على درجتين مئويتين خلال هذا القرن، وأن تطمح جميع دول العالم إلى وقف الارتفاع عند حدود الدرجة والنصف. واتخذت اتفاقية باريس منحى آخر في تحقيق هذا الهدف، فطالبت كل الدول الأعضاء، بإعداد وثيقة تحدد فيها خطتها في التعامل مع تغيُّرات المناخ طبقاً لظروفها الاقتصادية والتنموية، على أن تتم مراجعة تلك الوثائق وتحديثها بشكل دوري والإعلان عن ذلك بشكل شفاف. وكان ذلك ترجمة صادقة لمبدأ “المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة”، وهو المبدأ الذي تمسكت به دائماً الدول النامية منذ أُقرّ في الاتفاقية الإطارية لتغيُّر المناخ عام 1992. ويؤكد هذا المبدأ تباين قدرات الدول وإمكاناتها المالية والتقنية وقدراتها العلمية في كيفية التصدي لتحدّيات تغيُّر المناخ، ما يستدعي تبايناً في إسهامات دول العالم بتباين تلك الإمكانيات. وبالتالي يجب على الدول المتقدمة أن تتقدم الصفوف في مواجهة هذا التحدي، خصوصاً أنها مسؤولة تاريخياً عن حدوث تلك المشكلة منذ الثورة الصناعية وبدء استخدام الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة.

والتزم العالم بأكمله تقريباً إبقاء الاحتباس الحراري أقل من درجتين مئويتين وإذا أمكن 1,5 درجة، عما كان عليه قبل العصر الصناعي. لكن بعد هذه الاندفاعة التاريخية، تراجعت الحماسة عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ عام 2017، ما عُدّ ضربة موجعة لطموحات علماء وساسة الدول التي تستشعر خطورة التغيرات المناخية.

ويؤخذ على الدول الموقعة على اتفاق باريس عدم إدراجها نسب واضحة ومحددة مسبقاً لخفض الإنبعاثات ونصيب الفرد في ذلك. وشكل الانسحاب الأمريكي فرصة لتحلل بعض الدول من الالتزام بتعهداتها. وكان يفترض أن تخفض الولايات المتحدة انبعاثاتها بمقدار الربع بحلول عام 2025، مع تعهد أوروبي بخفضه بنسبة 40 بالمئة بحلول عام 2030. المسؤولون الصينيون من جهتهم، على الرغم من الإيجابية التي تحدثوا بها مع الأوروبيين قبل خمس سنوات. لكنهم في الوقت نفسه، لم يتعهدوا مطلقاً بإلزام أنفسهم بأرقام محددة. وقبل عامين، شكك تقرير اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC   ) بقدرة العالم على مواجهة مشكلاته المناخية ما دامت بعض الدول الموقعة على الاتفاق مستمرة في زيادة انبعاثاتها.

ويفترض أن يقدّم موقعو اتفاقية باريس عرضاً لوضع التزاماتهم بحلول نهاية 2020. لكن نحو 20 دولة فقط تمثل أقل من 5 بالمئة من الانبعاثات العالمية، فعلت ذلك عملياً.

وفي هذا الصدد قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مديناً تقصير بعض الدول إن “سياسات المناخ ما زالت دون مستوى التحدي” اليوم على الرغم من ضغط الرأي العام. وأضاف “نشهد ارتفاع الحرارة بمقدار 1,2 درجة مئوية ونلاحظ بالفعل تقلبات مناخية قصوى وغير مسبوقة”.

والآن، عقدت الأمم المتحدة قمة افتراضية بمناسبة مرور خمس سنوات على اتفاق باريس للمناخ، وسط تحذير المنظمة الدولية من ارتفاع في درجة حرارة الأرض. وبحسب تقرير أولي أصدرته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة (WMO)، فإن العام الحالي هو الأكثر حرارة منذ بدء قياس درجة حرارة الأرض في عام 1850. ولا يعدّ ارتفاع درجة حرارة الأرض المؤشر الوحيد على التغير المناخي.

وشارك القادة بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الصيني شي جين بينغ وممثلون عن الشركات والمجتمع المدني والشعوب الأصلية في هذه القمة التي تنظمها الأمم المتحدة وبريطانيا بالاشتراك مع تشيلي وإيطاليا لحشد الجهود من أجل تخفيضات أكبر في الانبعاثات المسببة لارتفاع درجة الحرارة.

وحملت اتفاقية باريس هذا العام في أهم مضامينها، توافقاً عالمياً غير مسبوق بمشاركة كبار المتسببين بالغازات الدفيئة، وهي الصين والولايات المتحدة والهند، على خفض درجة حرارة الأرض، أو الإبقاء على الأقل على ارتفاعها بحدود دنيا. ونجحت الاتفاقية في الوصول إلى حلول وسطية، وقد اتفق قادة العالم على أن الهدف هو الحفاظ على متوسط ارتفاع درجة الحرارة  بحد أقصى هو درجتين مائويتين. وفي الوقت نفسه، توصّل هؤلاء إلى إتفاق إضافي تلتزم فيه الدول على إبقاء الارتفاع دون 1.5 درجة مائوية بعد نحو 80 عاماً، أي في عام 2100.

وتسعى المفوضية الأوروبية إلى فرض ضرائب على التنقل من خلال الطائرات، لدفع الأوروبيين إلى تقليل تنقلهم من خلالها واستخدام القطارات بدلاً منها، التي تعمل بمعظمها على الطاقة الكهربائية. وعلى الرغم من أن الغرب يحمل الصين مسؤولية كبيرة في الانبعاثات المضرة بالمناخ، إلا أن دولاً أخرى، في شرقي أوروبا وإيطاليا، يتحملون نصيباً أيضاً من تلك الانبعاثات.

إن حكومات عدّة حول العالم رأت في اتفاق باريس للمناخ “فرصة ملزمة ومصيرية للتحول الأخضر”، وعُقدت آمال على الدول الأكثر تسبباَ في الاحتباس الحراري للحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة، لما لها من تأثير على مستقبل الأجيال المقبلة.

وهكذا وعلى الرغم من كل هذه الآمال فقد وجدت دراسة نُشرت مؤخراً في هولندا عن دول مجموعة العشرين أن أكبر سبع دول منتجة للانبعاثات في العالم كانت قد تعهدت بخفض انبعاثاتها بنحو 17 بالمئة عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية بحلول عام 2030. لكن المؤشرات الراهنة تدل على أن ما يمكن الوصول إليه لن يتجاوز 5.5 بالمئة في ذاك التاريخ. لذا فمن الواضح أن هناك فجوة حتى الآن بين التعهدات المعلنة طبقاً لاتفاق باريس، وبين الواقع.