أردوغان.. السلطان العثماني التائه
إبراهيم أحمد
المتتبع لمسار السياسة التركية الحديثة في زمن حزب العدالة والتنمية يحتاج لمعرفة المنابع الأساسية التي قولبت المنطلقات الأساسية لجميع الحكومات المتعاقبة المنتمية لتيارات الإسلام السياسي في تركيا، وخاصة في عهد أردوغان، الذي هيمن على آليات العمل السياسي في تركيا، وفي علاقاتها مع الخارج.
كان أبرز منظري رسم السياسات التركية من حيث مكانتها الجيوسياسية في التعامل مع الغرب السياسي هما نجم الدين أربكان واضع الأسس الحديثة للحركة الإسلاموية على اختلاف مشاربها، وأحمد داوود أوغلو مبتدع مصطلح “صفر مشاكل” و كتابه “العمق الاستراتيجي” الذي رسم فيه الصورة التي ينبغي أن تكون فيها تركيا داخلياً وإقليمياً وعالمياً.
أردوغان كارثة تركيا
وعلى عكس أربكان كانت صناعة الأعداء هي مهمة أردوغان بامتياز، وخروج العديد من اللاعبين الذين كانت لهم بصمات في الدولة التركية الحديثة من التحالف مع رئيس طاغية. كان ذلك أول مؤشر على هيمنة أردوغان على مفاصل الحياة السياسية بعد التخلي عمن كانوا إلى جانبه، وسنداً له عندما بدأ صعود سلم الحكم.
لم يترك أردوغان من حلفائه السابقين في حزب العدالة والتنمية وخارجه سوى القليل، فبعد أن خرج في وقت سابق العديد من الرموز الثقيلة من الحزب والحكومة إلى ساحات المعارضة، ها هو الحليف التاريخي بولينت أرينتش – مستشاره السياسي، ونائب رئيس الوزراء السابق ورئيس البرلمان – ينضم إلى ائتلاف المناهضين لسطوة أردوغان، ما يعطي مؤشراً على أن الديكتاتور تخلى عن أكبر مناصريه الذين كانوا إلى جانبه في كل المراحل التي مر بها خلال حياته السياسية.
ليست استقالة أرينتش من منصبه إلا تعبيرا عن وصول العلاقة بينه و بين رئيسه إلى قطيعة، وعدم قدرته على مواصلة المهمة التي اختلفت وظيفتها خلال السنوات القليلة الماضية، إثر دخول أردوغان في معمعة المعارك العسكرية والسياسية مع أكثر من فاعل سياسي، وإقليمي، سواء في أوروبا، التي عاد أردوغان للاعتراف بأن تركيا لا تتصور نفسها خارجها، أو مع جيرانها في كل من اليونان، وسورية، والعراق، إضافة إلى دخولها لاعباً بكرة نار تحرق الأخضر واليابس في ليبيا، وفي مناطق أخرى استجدت فيها معارك عسكرية، أبرزها ناغورني كاراباخ بين أرمينيا، وأذربيجان.
وأرينتش، كما هو حال رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داوود أوغلو، ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان، اللذين قدما استقالتيهما من الحكومة وانتقلا إلى صفوف المعارضة، لا يعتبر رفيق درب أردوغان فقط، بل هو أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية عام 2001، وكان وراء الصورة التي ظهر عليها أردوغان أمام الرأي العام المحلي، والخارجي. أرينتش لم يتقبل فكرة هيمنة أردوغان على كل مفاصل الدولة وبناء “جمهوريته الخاصة”، والإيغال في استهداف الخصوم، فقد كان يرى أن تركيا بحاجة إلى إصلاحات في القضاء والاقتصاد ومجالات أخرى، وأن هناك حاجة إلى تهدئة البلاد وإيجاد حل لمخاوف الناس، لأنه يدرك أن كتل النار بدأت تأكل جسم الدولة التركية، التي صارت في عهد أردوغان تزيد من أعداد الخصوم، وتُقلّص من عدد الحلفاء، والأصدقاء.
وهو ما يؤكد أن أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، وأقرب المقربين من أردوغان فيما مضى، لم يكن مبالغاً حين اتهم أردوغان بأنه أكبر مصيبة حلت بتركيا بعد أن حوّل البلاد إلى “شركة عائلية كارثية”. وليس أوغلو وحده من يتهم أردوغان بجر تركيا إلى الخراب وأخذها رهينة لأفراد عائلته، فهناك صفوة من السياسيين الذين أفنوا سنوات عمرهم في صفوف حزب “الحرية والعدالة”، إلى جانب أردوغان، أمثال علي باباجان وعبدالله غول، وغيرهما، ليجدوا أنفسهم، في نهاية المطاف، في موقع المعارضة والصدام مع أردوغان وحزبه، ويضطروا إلى تأسيس أحزابهم الخاصة على أمل التخلص من السلطة الحاكمة الجاهزة دوماً للانقضاض على أي حراك شعبي أو سياسي بذريعة ارتباطه بـ “الانقلاب” وأتباع فتح الله غولن.
من جهته اعتبر علي باباجان – نائب رئيس الوزراء الأسبق في تركيا، إبان تولي أردوغان رئاسة الحكومة، وقد انشق عن الحزب الحاكم في تموز 2019، في أعقاب الانتكاسة التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية – أن نظام أردوغان أعاد تركيا إلى “ظلام التسعينيات”. وقال باباجان، في مؤتمر حزبه “الديمقراطية والتقدم ” بمدينة موش التركية: “عندما كنتُ أنا وأصدقائي في الحكومة، حققنا تحسينات مهمة في الحقوق الديمقراطية. وحينما ننظر إلى المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، نرى أننا عدنا إلى الخلف، ولم يصبح هناك مكان لتلك التحسينات. لقد أعادونا إلى ظلام التسعينات”.
هؤلاء الساسة لم ينفضّوا عن شراكة أردوغان إلا بعد أن وجدوه يقود تركيا إلى المكان الخاطئ، وبالتالي إلى العزلة الدولية، بسبب سياساته الداخلية والخارجية، خصوصاً بعدما شاهدوا تخبطاً في سياساته الخارجية وإقحام تركيا في سلسلة من الحروب والأزمات، بدءاً من سورية وليبيا والعراق، ومروراً بشرق المتوسط، وصولاً إلى القوقاز وإعادة إشعال الصراع في إقليم ناغورني كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان. وبعد أن شاهدوا أردوغان يسخّر كل إمكانيات الدولة من أجل بقائه في السلطة والسعي لتحقيق مشروعه العثماني وتحويل الأنظار عن الغليان الداخلي الناجم عن انهيار الاقتصاد والفقر والفساد والظلم وقمع الحريات والمعارضين وتكميم الأفواه واضطهاد الفئات الاجتماعية الأخرى من الأقليات، وبالتالي اعتماده على أفراد عائلته وأقرب المقربين إليه في إدارة مفاصل الدولة، وليس على ذوي الكفاءات والاختصاصيين، لتتحوّل الدولة برمتها إلى مزرعة عائلية تجمع خيوط السياسة والاقتصاد وكل مقدرات البلاد.
وفي كل مناسبة يتوجه أردوغان إلى الأتراك ليطالبهم بالصبر على المصاعب التي يمرون بها، ما دفع داوود أوغلو إلى مخاطبته أثناء مؤتمر حزبه “المستقبل” في مرسين جنوبي البلاد بالقول: “إن الأمة ستصبر، ولكن على أي مصيبة ستصبر؟ ومن هم المتسببون في هذه المصيبة؟ أنتم أنفسكم المصيبة. أكبر مصيبة حلت على هذا الشعب هو ذلك النظام الذي حوّل البلاد إلى شركة عائلية كارثية”. مشيراً إلى أن أردوغان ذهب في سبيل الحفاظ على السلطة إلى إقامة تحالفات غير طبيعية مع اليمين واليسار في آن معاً، وحتى مع انقلابيي عام 1997، تاركاً أصدقاءه الذين كافحوا معه ضد رموز تركيا القديمة. بينما يذهب علي باباجان نائب رئيس الوزراء الأسبق، في مؤتمر حزبه الأول “الديمقراطية والتقدم” إلى اتهام أردوغان بإعادة إحياء المشاكل القديمة التي من شأنها أن تفاقم المشاكل الداخلية، وتزداد معها عزلة تركيا الدولية.
باختصار، إن المظلة الأخيرة من الحرس القديم التي حمت أردوغان أمعن فيها تكسيراً، وتمزيقاً، وتحّول حزب العدالة والتنمية إلى أفضل نموذج يمكن أن يحتذى به من أجل إقامة نظام الاستبداد، وعبادة الفرد. لقد تاه السلطان العثماني المغرور وهو يبحث عن مجد زائف لا وجود له إلا في مخيلته المريضة.